العميد.م. وجيه رافع
مرّة جديدة، ينزف لبنان دماءً طاهرة على مذبح واقعه السياسي والأمني، طرابلس عاصمة الشمال أيضاً وأيضاً مسرحاً لنزيفه، المدينة الأكثر فقراً على شاطئ المتوسط، تتهاوى باستمرار مع أمواجه يميناً وشمالاً، مدينة على موعد دائم مع بالها الذي لا يهدأ ولا يستكين، مدينة
سكنها الألم ليلة عيد الفطر السعيد، لتحوّل سعادته الى حزن جارف على مساحة الكيان، جولاتها القتالية التي أنهكتها وأكلت لحوم فقراءها، بالكاد أطفأت لهيبها، مدينة يتعايش داخل أسوارها فقر مُدقع، يلبس لبوس الدين أحياناً ويأخذ ببعضهم الى التطرف العبثي، وتبنّي أفكار حادة هدّامة، مع ثراء فاحش لأقلية سياسية وعائلية حاكمة، أتقنت الرقص فوق يأس وتعاسة الآخرين، كان بإمكانها لو أرادت، ان تستثمر في اقتصاد المدينة وتدفع بالتنمية فيها قُدماً، وهي قادرة، لكنها تخلفت عن ذلك عن قصد مبيّت، وعن سابق تصور وتصميم، فالإستمرار في الفقر والعوز غنىً لها، ومِعبر ضروري لسطوتها ونفوذها.
مدينة كانت فيما مضى رافد للعلم والنور والإيمان والثقافة، أضحت بفعل سياسات النافذين فيها إلى مدينة كئيبة يلفها الفقر والظلم والخوف، ليتحكم ببعض شبانها عقائد غريبة عن تاريخها وعن أهلها تدفعهم الى الخروج عن الدين الحنيف، يزرعون الموت في شوارعها وبين بيوتها دون وازع أو ضمير.
كل ذلك يجري، في ظل غيابٍ تامٍ لدولة مستسلمة، يائسة وغير قادرة على تحسين الواقع المعيشي والإجتماعي للمواطنين في كافة أنحاء البلاد، دولة يتقاذفها الضياع واللاأفق، التخبط عنوانها، ماضيها كان وهو اليوم حاضرها،عجز يطالها على كافة الأصعدة والمستويات، وفي كافة الأمكنة دون استثناء، السياسة والفلتان، كلمتان، لكنهما مترادفتان متكاملتان لا تنفصلان، أضحى لبنان وفي ظل هذه المنظومة الحاكمة غارقاً في الظلم والظلام واليأس والفقر والخوف، واليوم غرق مع طرابلس بالقتل والدماء، وأيضا وأيضا دون وازع او ضمير.
كل ذلك مجتمعاً، أدى الى قيام شاب في مقتبل عمره على الإنتحار على طريقتهالخاصة، مُشبعاً بأفكارٍ ملوثة عمياء، حاصداً معه أرواح أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم اختاروا الإنضمام الى مؤسسات وطنية لخدمة وطنهم، أصّر وفي ليلة العيد، ان يُعيد أربعة شّبان الى ذويهم وعائلاتهم وقراهم داخل نعوش بيضاء، رسم الألم والحزن والأنين على وجوه أمهاتهم وأبائهم، تاركاً أطفالاً يتامى يدمى لهم الجبين حزناً وألماً، ينظرون ببراءة وهدوء الى صور آباءهم الشهداء تتراقص فوق الرؤوس وهم يبادلونهم نظرات الوداع الأخير، فأين تقبع المسؤولية، ومن هو المسؤول؟
هذا هو مسرح الجريمة الإرهابية بأبعاده السياسية والإجتماعية والتنموية، أما المجرم فهو عبد الرحمن المبسوط، وفقاً للمعطيات القائمة، يملك الرجل تاريخ إرهابي، وتشويش فكري وديني، وعقيدة تكفيرية، إلتحق بداعش منذ سنوات في إدلب، وما لبث ان عاد الى لبنان، أُلقي القبض عليه من قبل الأجهزة الأمنية وتمت إحالته الى القضاء، حيث ثعالب السياسة اللبنانية كانت تواكبه للتخفيف من محكوميته، وصولاً الى دفع كفالة عنه لتقصير مدة سجنه، ولان الإصلاح الإجتماعي وإعادة التأهيل، مصطلحات غير موجودة في قواميس الدولة اللبنانية، خرج من السجن منذ حوالي السنتين، اما متابعتة مراقبته ومواكبته عن كثب بعد خروجه من السجن، مسألتان من أسس العمل الأمني في العالم المتحضر، لكن ليس في لبنان، سنتان عاشها في الحرية بعد إطلاق سراحه كانت كافية للتخطيط لارتكاب جريمته وتفريغ حقده على الآمنين، وإختار ليلة عيد الفطر السعيد وأقدم على ارتكاب جريمته النكراء، وأيضاً دون وازع أو ضمير.
مصطلحات كثيرة وتسميات متعددة أُطلقت على سفّاح العيد، هل هو تابع الى خلية نائمة أم خلية يقظة متحركة، هل هو ذئب منفرد أم مع مجموعة ذئاب آخرين، لكن بغض النظر عن أي نوع من الوحوش هو، يبقى ان هناك أمران لا يحملان الشك ، هما: ان هناك بصمات داعشية واضحة في عقيدته التكفيرية، ترافقه وجود بصمات ثعالب ومنافقين ومستهترين في حياة الناس، هي أيضاً واضحة في عقيدة تجار السياسة في لبنان، إبتداءً من ممارسة شتى أشكال الضغوط على القضاء، هذا القضاء الذي كان مفخرة العدل في المشرق العربي، والذي أقام بنيانه وقواعده على العلم والعدالة والفقه والقانون، تراه اليوم، مع الأسف، يترنّح تحت ضربات ثعالب السياسة وتجارها، ويتعرّض باستمرار الى شتى أنواع الضغوط من كافة الافرقاء السياسيين .
ومن المحتمل أيضاً ان يكون الرجل يعاني من عدم إتزان نفسي وتشتت ذهني، وهذا ما أكدت عليه جهة أمنية معنية، يضاف إليه ضياع إجتماعي مع بطالة وفقر وعوز، وذلك استناداً الى عدة معطيات قائمة، منها عدم إطالة إقامته في إدلب وعودته سريعاً الى لبنان، ودخوله السجن لأكثر من سنة بقليل، مع إمكانية تعرضه لتوترات نفسية مضاعفة داخل السجن، حيث يشهد الجميع عن أحوال سجون لبنان التي تعاني الاهتراء والفوضى وإلاكتظاظ وسوء النظافة وسوء تعامل مأموري السجون ومخالفة القوانين، حتى قيل أن سجون لبنان يتخرج منها حاقدون على الدولة، وقد يكون هذا ما يُفسر إطلاقه النار على العسكريين فقط دون المدنيين، في الجيش وقوى الأمن الداخلي بداعي الانتقام، ومن ثم تفريغ ممشط ناري على واجهة مصرف لبنان، حيث يظهر حقده على كل ما يتصل بمؤسسات الدولة بكافة عناوينها، مع ملاحظة عدم اقترابه أو أذيته للمدنيين الذين كانوا يمرّون بقربه أثناء ارتكابه لجريمته،أما مسألة استحواذه على سلاح أوتوماتيكي وبضعة قنابل وحزام ناسف، فالجميع يعلم ان الأمر جائز جداً في بلد كلبنان، حيث تنتشر فوضى السلاح بشكل مخيف، مضافاً إليه وجود حوالي مليوني نازح ولاجئ على أراضيه، يعيشون فيه بصورة متفلتة في كثير من المناطق والأحياء.
لكن وبالرغم من كل ذلك، وفوق الآلام والجراح والتخبط، ستتمكن الأجهزة الأمنية المختصة من حسم الموضوع بسرعة، وختم التحقيق ووضعه في إطاره النهائي الصحيح، فلبنان بالرغم من الفوضى المنتشرة فيه، وبالرغم من تعدد أجهزته الامنية وتشابك صلاحياتها، لا بل تضاربها أحياناً، وبالرغم من الفلتان السياسي وانعكاساته على الاستقرار، إذ انه يبقى متماسكاً أمنياً الى حدٍ مقبول في ظل الحرائق المتنقلة في مشرق المنطقة ومغربها، وتتمتع أجهزته بقدرة معقولة على التعامل مع الإرهاب، ولكنه بالمقابل يجب على هذه الأجهزة ان تعمل على تطوير قدراتها خاصة ان عملية مكافحة الإرهاب أصبحت عملية معقدة جداً تتطلب جهوداً مميزة، إن لناحية وجوب العمل على تأمين هيكلية خاصة وإمكانيات معينة وجاهزية متخصصة، او لناحية معرفة كيفية التعامل الأمني الحذر مع المناطق ذات الإنذار الأمني الخطر، وكل منطقة وفقاً لواقعها ومنسوب خطرها على الأمن السياسي والاجتماعي، بالإضافة الى التخصص بالمراقبة المشّددة والمستمرة للخارجين من السجون وخاصة للمحكومين في قضايا الإرهاب، فالساحة اللبنانية مقبلة قريباً على خروج عدد كبير من الإسلاميين، إما بموجب قانون العفو المتوقع صدوره والذي بجب أن يُستثنى منه كل من اعتدى على الجيش والقوى الامنية، أو بسبب إنتهاء مدة محكوميتهم، وحتى لا يكون لدينا اكثر من»مبسوط» في المدى المنظور، يزرع خلفه أحزاناً كبيرة، تذّوق طعمها اللبنانيون على اختلاف مشاربهم لعقود طويلة.
لذلك، التكامل العملي وليس النظري بين جميع الاجهزة صار فرضا واجبا لحماية لبنان، مع انكباب سياسي على معالجة الاسباب والنتائج لان المتهم الاول والاخير طبقة سياسية تبيح لنفسها كل شيء لتبقي سطوتها وتوسّع مساحة نفوذها.