وجيه رافع – سدني –

عميد متقاعد في الجيش اللبناني

سلك مشروع قانون موازنة العام 2019 طريقه الى المجلس النيابي تمهيداً لإقراره، بعدما قامت الحكومة بإنجاز الموازنة والمصادقة عليها وإحالتها، ومن المستبعد جداً، إجراء او إحداث أية تغييرات جوهرية عليها لسبب بسيط جدا، وهو أن كافة القوى السياسية والكتل النيابية الكبرى التي يتشًّكل منها المجلس النيابي، ممثلة في الحكومة، إذ ان تشكيل الحكومات في لبنان أصبح يخضع لقواعد اتفاق الدوحة وليس دستور الطائف، الأمر الذي أدّى الى ابطال القاعدة الذهبية في ممارسة الديمقراطية، ألا وهي مسألة الأغلبية والأقلية، أي أغلبية تحكم وأقلية تعارض، فالديمقراطية التوافقية الخلاقة التي أبدعتها المعجزة اللبنانية، ما زالت تشكل العمود الفقري للعملية السياسية القائمة في البلاد.

لكن هذا بالطبع، لن يقف عائقاً أمام بعض الكتل الصغيرة او بعض المستقلين من مهاجمة الموازنة وعدم الموافقة عليها، لكنهم وبكل تأكيد لن يؤثروا  تأثيراً جوهرياً على إقرارها كما وردت من الحكومة.

تعبّر الموازنات بشكل عام، في نصّها وروحها، على مجمل الطرق والوسائل التي تعتمدها الحكومات لاجتراح الحلول والمخارج الآمنة لاقتصاداتها الوطنية، كلٌ وفقاً لواقعه القائم في الدولة، وتبقى جدلية العلاقة التبادلية بين التقشف والبحبوحة من جهة، وبين إصلاح  الاقتصاديات المتهالكة أو تطوير الاقتصاديات المرنة والمنتجة من جهة أخرى، تشكل مجتمعة الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الموازنات والتي تعتبر المعبر الرئيسي للحكومات للعبور باقتصادها وماليتها الى شاطئ الأمان.

يمكن اعتبار موازنة العام 2019 تقشفية إلى حدٍ ما، لكنها وبكل تأكيد لم تقارب الإصلاح بأي شكلٍ من الأشكال، فقد قامت السلطة باقتطاعات مهمة من ذوي الدخل المحدود، أدمع عيون وأبكى قلوب الطبقات الفقيرة في البلاد، بالإضافة الى فرض رسوم وضرائب على بعض القطاعات المؤثرة في حياتهم، بهدف تخفيض عجز الموازنة بأقل من أربعة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويؤخذ على الحكومة هنا، عدم مقاربتها أية حلول إصلاحية بكافة عناوينها ومضامينها، أو عدم قيامها بأية إجراءات جدية تكبح أو تقفل مكامن الهدر الكبيرة في البلاد، الأمر الذي أدى الى انقسام  من  قبل السياسيين والاقتصاديين وعامة الشعب، كلٌ حسب أهواءه وآراءه في مقاربة موازنة الحكومة بين متشائمين ومتفائلين في معرض قراءتهم وتحليلهم لأرقام الموازنة معطوفة على أحكامهم المسبقة للواقع السياسي والحكومي في البلاد.

يؤكد المتشائمون والقلقون على مستقبل البلاد، أن الحكومة عاجزة عن الاقتراب من أية إجراءات إصلاحية أو معالجة مكامن الهدر الكبرى، وهي عديدة ومتداخلة، لأن أهل الحكم هم أنفسهم ما زالوا في السلطة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهم أوصلوا البلاد الى حاضرها المتهالك، فكيف يمكن لمن كان السبب، وعمل لعقود خلت على تأمين مصالحه ومصالح محازبيه على حساب الشعب والدولة، أن تنتظر منه أي إصلاح، فالبلاد ستبقى على ما هي عليه، لا بل ستذهب الى الأسوأ، لأن المعادلة هنا واضحة ساطعة لا جدال فيها، وهي أن الفساد والهدر سيزداد، وستلجأ الحكومة الى مزيد من الاستدانة لتسيير عجلتها وآلتها الحكومية، الأمر الذي سيؤدي الى ازدياد الدين العام وإغراق الموازنة مجدداً في عجزٍ مستدام، وكلما زاد العجز ستقوم السلطة بمزيد من الاقتطاعات والرسوم والضرائب، الأمر الذي سيدخل البلاد، وفي وقت قريب، في دائرة اقتصادية ومالية متهالكة، مما سيؤدي حتماً الى ما لا تحمد عقباه على المستويين الاجتماعي والمعيشي للمواطنين قد يشعل ثورة حقيقية في طول البلاد وعرضها.

في المقابل، يرى المتفائلون، وهم بأغلبهم من الذين يدورون في فلك العهد والحكومة، خلاف ذلك، إذ انهم يؤكدون على وجوب النظر والحكم الى النصف الممتلئ من الكوب، وليس الى فراغه، فالسلطة في لبنان توافقية، والملفات الإصلاحية المطلوبة كبيرة ومعقدة، وكذلك معالجة مكامن الهدر، والثغرات الكبرى التي تسببت لعقود طويلة في تهالك اقتصاد الدولة وماليتها العامة، وتراجع نسبة النمو، وتعاظم الدين العام باستطراد، بالإضافة الى تخلف القطاعات الإنتاجية، وتعثر البنى الاقتصادية وتقهقر البنى التحية المحفزة للاقتصاد، وانتشار الفساد بشكلٍ ينخر عظام كافة مؤسسات الدولة دون استثناء، بالإضافة الى تورط رؤوس كبيرة في السلطة في طول البلاد وعرضها ومن كافة الطوائف والمذاهب والجماعات بأعمال مخالفة للقوانين أدّت الى تعاظم ثرواتهم وثروات عائلاتهم بصورة جنونية، ومن أجل ذلك، المطلوب هو العمل بكل  رويّة وهدوء من أجل بزوغ فجر الانفراج وليس غروب الانفجار، والعمل سيجري لمعالجة كافة الأزمات والملفات القائمة بهدوء واتفاق، كي لا ندخل البلاد في انقسامات ومناكفات واتهامات واتهامات مضادة، تعيد كل شيء الى نقطة الصفر، وتدخل البلد في أزمات بغنى عنها.

اما بالنسبة للتقشف الذي حصل حاليا ،وُجب النظر اليه نظرة إيجابية كمدخل الى الإصلاح وليس الإصلاح بذاته، فهل سبق وأقدم من كان في السلطة لسنوات طويلة خلت، على إجراءات تقشفية في موازنات سابقة ،لا بل بالعكس، إذ انهم كانوا يزيدون أموالاً طائلة على بعض فقرات الموازنة الغير ضرورية، للاستفادة منها بطرق  ملتوية لمصالحهم الشخصية، ويؤكد هؤلاء انهم لا يخفون إيمانهم برئيس البلاد مدعوماً من قوى سياسية رئيسية، بأنه حان الوقت للخروج من النفق المظلم، وسيرى الشعب اللبناني في موازنة 2020 إجراءات إصلاحية كبرى ستطال كافة القطاعات والمؤسسات والمرافق، وسيكون عندها للمصارف دوراً رئيسياً في مساعدة الدولة في مديونيتها العامة، وما حصل في الموازنة الحالية من تقشف وشح في المصاريف ،هو بعض من شروطها للإقدام، وإلا الانهيار سيصيب الجميع، وستغرق سفينة الوطن بما عليها من حملٍ دون استثناء ،وعندها لن ينفع الندم او البكاء.

بين النظريتين والفريقين، يلعب الجميع، دون استثناء، أهل السلطة ومعارضيهم، على حافة الهاوية، فالخوف على البلاد يزداد وأصبح لبنان في عنق الزجاجة، علّه هذه المرة يصدق من تفاءل بنظرته ووجد ان هناك إمكانية ما للإنقاذ، وبين هذا وذاك، يبقى التشاؤل سيد الأحكام والأزمان والمستقبل، ومن يعش يرى.