وجيه رافع – سدني
عميد متقاعد في الجيش اللبناني
عميد متقاعد في الجيش اللبناني
يتبنى النظام السياسي الطائفي المطبّق في لبنان مفهوم الهوية الوطنية المركّبة، بطريقة واسلوب لم يسبق لأي دولة في العالم ان طبّقته، وذلك عبر آليات دستورية معقّدة وغير متجانسة، لا بل متناقضة في بعضها، لكنها في نصها وروحها، تتبنى المبادئ الانسانية الاخلاقية، والاعلان العالمي لحقوق الانسان، شكلا فقط، ليأتي دور الميثاق الوطني الشفهي غير المكتوب، القابل غب الطلب، وفي اي وقت، لإدخال تعديلات وتفسيرات واجتهادات واعراف وابداعات، تلغي وتقوّض اي مضمون حقيقي لتلك المبادئ الانسانية الاخلاقية التي يؤكد عليها الدستور اللبناني.
ان المجتمعات المركبة، واجهت مسألة الاختلاف الهويتي، عبر نظام سياسي وحيد لم تستطع المجتمعات البشرية الحرّة لتاريخه، من ايجاد نموذج مختلف عنه، ألا وهو النظام الفيدرالي المعتمد في العديد من دول العالم، والذي يقضي بتقسيم اراضي الدولة الفيدرالية الى وحدات سياسية جغرافية وفقا لطبيعة الاختلاف، على ان تنسجم كل وحدة سياسية مع المشتركات الاساسية لباقي الوحدات، من دون المساس بجوهر هذا الاختلاف، الذي قد يكون طائفيا، اثنيا، عرقيا او حتى ثقافيا، بينما تعبّر السلطة الفيدرالية عن كامل هوية الدولة وتقدم نفسها امام المجتمع الدولي كممثل وحيد لكافة الوحدات السياسية التي تؤلفه، كونها وحدة سياسية كاملة، وقد أدت تقنيات هذا النظام الى ترك الامور والمسائل التي تتشكل منها الثقافات والرغبات واسلوب الحياة الى الوحدات السياسية داخل الكيان الفيدرالي، بينما يناط بالدولة الفيدرالية كل ما تحتاجه الدول للظهور كمؤسسة سياسية واحدة في كافة المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية والدفاع والامن، اما باقي المسائل فتعود لاختصاص الوحدات السياسية كلٌّ بحسب رغبته ونظرته للامور واسلوب الحياة التي ترغب بها الشعوب المؤلِفة لهذه الوحدات السياسية.
واذا نظرنا الى الدولة الفيدرالية بصورة بيانية، فان هذا النظام يظهر على مستوى طبقتين من العمل، وكل طبقة مختصة بأمور ومسائل محددة بوضوح تام لا لبس فيها ولا اجتهاد، وتظهر هاتان الطبقتان انهما تعيشان على مستوى معين من التمازج والاختلاف، فتتقاربان وتتباعدان بصورة آلية واضحة وفقا لقواعد دستورية محددة، لكن في جوهر هذا التقارب والاختلاف، يبقى الاساس القواعد الانسانية والاخلاقية الضرورية لاستقرار المجتمعات السياسية والتي ثبتتها الشرائع والقوانين الدولية ومنظمات حقوق الانسان، وهي المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين كل المواطنين في كلتا الطبقتين، فكل مواطن موجود في وطن يجب ان يتساوى فيه مع المواطن الاخر بالحقوق السياسية الكاملة من دون تفرقة او تمييز، وقد نصّت المادة السابعة من الدستور اللبناني على ما تقدم، لكن شكلا فقط كما ذكرنا آنفا، مع التأكيد ان هذه الحقوق تبقى الرافد الاول لاستقرار المجتمعات السياسية وتطورها في اي بقعة من العالم.
بينما في لبنان، يعتمد النظام السياسي القائم فيه على آليات معقدة للتعبير عن الهوية المركّبة، وهو ايضا نظام قائم على طبقتين، لكنهما بعكس طبقتي النظام الفيدرالي، لا احد يعرف اين يلتقيان ولا اين يفترقان، وطبقا للهوية الوطنية والهوية الطائفية للمواطن اللبناني، تم توزيع المواقع والمراكز والمسؤوليات في كل مؤسسات الدولة البسيطة من اعلى هرمها حتى ادناه الى ادنى ادناه ايضا، على الطوائف اللبنانية، ولكل طائفة حصة في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة، ومعالجة الهوية المركبة هنا تراها عملية معقّدة ومضنية، والطوائف فيها هي الوحدات السياسية والجغرافية المعبّر عنها في النظام الفيدرالي الطبيعي، ولكن تحت مصطلحات معينة، مثل المارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية والدرزية السياسية، علما ان جميع مواد الدستور اللبناني هي مواد تعبّر عن دولة بسيطة لا دولة فيدرالية.
ان العقل المؤسس للنظام ليس غبياً لكي يوزع المواقع والمسؤوليات على الطوائف ضمن مواد دستورية واضحة، وترك هذه المهمة الشيطانية للميثاق الصيغة، وهنا يبدأ الشذوذ في معالجة الهوية المركبة في لبنان، وافضى هذا الشذوذ الى تكوين سلطة في كلتا الطبقتين لا تخضع لقواعد معلومة وواضحة، وهي عبارة عن قواعد ممزقة، وعن هجين غريب بين قواعد وتشريعات واعراف واستنتاجات تسمى غالبا ميثاقية، ولا حدود واضحة لإطارها، تتقلّص وتتمدد وفقا للرغبات والمصالح، أضحت سلطة تتجسّد بزعماء سياسيين يقدمون انفسهم حماة لطوائفهم، وليسوا في الحقيقة سوى سادة اقطاع، وقادة عصابات، اتخذت زورا شكل احزاب سياسية، الامر الذي ادى الى ضياع البنى المؤسساتية لكافة مؤسسات الدولة، وبرلمان هذا النظام الهجين اضحى فولكلورا، ونظام قائم على تركيبات حكومية هشة تتعايش بالاكراه، ويتدخل لتشكيلها دول القرار على مساحة المعمورة، مع فراغات قاتلة وعلى فترات طويلة من الزمن في جميع المؤسسات الدستورية، وادارات منهوبة ووزارات بلا افق، ويتم اختراع وزارات وهمية لوزراء توزّع عليهم هدايا مقابل عطايا، ومعارك طائفية طاحنة ظاهرها اخلاقي وباطنها محاولات طائفية للسيطرة على السلطة.
اما المضحك المبكي في آن، ان المواقع والمراكز والمسؤوليات قسّمت على الطوائف وفقا لعدد وحجم كل طائفة، ويكبر الموقع وصلاحياته مع كبر الطائفة عددا، ويصغر كلما تقلّص العدد، الامر الذي ادى الى تقويض مبدأ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وغياب دولة القانون وتفشي الفساد في كل المؤسسات وتراكم الثروات المشبوهة لكبار السياسيين والموظفين.
لا احد يعلم في النظام السياسي الدستوري للبنان، صلاحيات كل طبقة من الطبقتين (الوطنية والطائفية)، ويستطيع اي مسؤول سياسي ان يطالب بتجاوز مواد الدستور متذرعا بالميثاقية التي اضحت الوجه الآخر للموبقات والغدر ووضع اليد، واضحى دستور لبنان مع ميثاقه عبارة عن تزاوج هجين وشاذ مخالف للطبيعة وللقواعد الانسانية والاخلاقية.
وفي هذا النظام الهجين الشاذ بين ما هو وطني وما هو طائفي، تستمر معارك الطوائف وزعمائها للسيطرة على السلطة وصناديقها وخزناتها، ويُبدع دائما في تفريغ محتواها اكثرهم قولا وصراخا عن وجوب احترام دولة القانون والمؤسسات، وفي هذا النظام ترى طوائف لبنان متعددة الاشكال والمواصفات، منها الفاخر ومنها الاقل جودة، طوائف من ذهب وطوائف اكلها الصدأ.
من تجربتي في هذه الدولة، متنقلا على مدى خمس وثلاثين سنة في مراكز وظيفية مختلفة، لا اخفي شعوري بالطبقية من مواطني الطوائف الكبرى كوني انتمي الى طائفة صغرى، وهذا الشعور قد تهضمه احيانا عندما تدرك بكل يقين ان لبنان هو الأغلى ومن اجله تستحق كل التضحيات.
لبنان يغرق، وقد ينهار، لقد تعب هذا الوطن ولم يتعب جلادوه ويبدو انهم لن يتعبوا، والى الامام في جمهورية اليأس والالم والرسالة.
وآن الأوان لشعب لبنان ان يتخذ القرار الصائب لمرة واحدة، فنجتمع ونطلق الصرخة الكبرى ونصحح المسار.