كان يزداد صلابةً على شبة شجرة الأرز الّتي تنمو وتقوى وتتصلب بمقدار ما تعصف الرّياح

ترأس المطران أنطوان شربل طربيه أمس الأول الأحد قداساً في كاتدرائية سيدة لبنان في هاريس بارك على نية  المثلث الرحمات البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بحضور حشد سياسي وديبلوماسي واعلامي وشعبي.

بعد الإنجيل المقدّس ألقى المطران طربيه العظة التالية:

حضرة ممثل رئيسة حكومة نيو ساوث ويلز، معالي الوزير جون سيدوتي المحترم،

حضرة رئيس المجلس التشريعي في نيو ساوث ويلز الاستاذ جون عجاقة المحترم والسيدة عجاقة،

أصحاب المعالي الوزراء وأصحاب السعادة النواب: جيف لي، جهاد ديب، جوليا فين، تانيا مهيلك،

سعادة قنصل لبنان العام في نيو ساوث ويلز، الاستاذ شربل معكرون المحترم والسيدة جويل نحول،

إخوتي الآباء الأجلاء والأخوات الراهبات الفاضلات،

سماحة المشايخ: مالك زيدان، شفيق عبدالله خان، أحمد قاسم وأحمد ريان،

الأحزاب والجمعيّات والروابط اللبنانية في أوستراليا،

ممثلي وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب،

أيّها الاخوة والأخوات بالرب يسوع،

منذ وردنا نبأ وفاة المثلث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في صباح الأحد الفائت، وكنيستنا المارونية تعيش حزناً ممزوجاً بالرجاء المسيحي لرحيل خادمٍ أمينٍ لله للكنيسة  وبطريرك الاستقلال اللبناني الثاني.

نلتقي اليوم في هذه الكنيسة المباركة ليس لنصلّي لأجل راحة نفسه وحسب، انما أيضا لنتأمل بسيرة حياته ومواقفه وعطاءاته السخيّة للكنيسة ولبنان لانّه بالفعل كان أيقونة الرّجاء في الأزمنة الصعّبة.

في 15 أيّار من سنة 1920 – والّذي يصادف أيضا عيد سيدة الزّروع ? فرح مارون صفير و حنّة فهد بولادة ابنهما نصرالله  وحيداً على خمس شقيقات، سبقه منهن ثلاثة الى البيت الآب السّماوي.

ومنذ حداثته تميّز بتقواه ومحبّته للعلم والمعرفة والتّمكن من اللّغات خصوصاً العربية والفرنسية. وقد لبّى نصرالله النّداء الى إتّباع المسيح في الحياة الكهنوتية. وبعد أن أنهى وبجدارة دراسة اللاهوت والفلسفة، سيم كاهناً سنة 1950.

ونظراً لما كان يتحلى به من صفات إنسانية وفضائل روحية ومعرفة باللّغات، عيّنه المثلث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي، أمين سرّه، سنة 1956.

و بعد خمس سنوات، أي في 16 تمّوز من سنة 1961، انتخبه السّينودوس الماروني مطراناً ونائبًا بطريركياً عامّاً، وهو في سنّيه الواحد والأربعين 41. من ثمّ تولّى ادارة الأبرشية البطريركية بكل نياباتها: جبيل، البترون، جبة بشرّي، اهدن مع زغرتا و دير الأحمر. فكان الرّاعي الغيّور على قطيعه والمتفاني في خدمة أبناء الكنيسة والسهر على خيرهم الرّوحي وتدبير شؤونهم بكل تجرّد وتواضع و محبّة.

استمرّ في مهمته كنائب عام مع المثلث الرّحمة الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، الّذي انتخب في مطلع العام 1975، قبيل اندلاع الحرب في لبنان في 13 نيسان من العام نفسه.  فكان الى جانب البطريرك الكردينال خريش في مواجهة المخّططات الظالمة والمظلمة، الهادمة والشّريرة، والّتي كانت تهدف الى هدم المؤسسات الدّستورية والادارات العامة، وتقسيم لبنان وترحيل المسيحيين منه.             

وفي نيسان من سنة 1986، انتخبه سينودوس الأساقفة بطريركاً فكان البطريرك السّادس والسّبعون، فقبل البطريركية بوعي تام ككل أسلافه البطاركة، وانطلق حاملاً صليبين: صليب الرب يسوع، بعيش الفضائل المسيحية وحياة الصلاة والتأمل وإعلان بشرى الانجيل وتوزيع الاسرار وتدبير القطيع كراعٍ صالح  للكنيسة المارونية، وصليب لبنان المعذب وانسانه المقهور، مدركاً تماماً أنّ هذا الجبل اللّبناني هو معقل ايمان، وموئل حرية، وحصن كرامة، لا يمكن التّخلي عنه أو القبول بتغيّير هويته التّاريخية أو الديموغرافيّة.

وبعد مشاورات خاصّة مع مجلس المطارنة، قدّم المثلث الرّحمة استقالته الى قداسة البابا بنديكتوس وكان قد بلغ من العمر 90 سنة. كان يردد: “من الأفضل أن أتنّحى وأنا بكامل وعيي وقدراتي”.  وفي 26 من شهر شباط من سنة 2011، وجّه البابا بنديكتوس السادس عشر رسالة الى البطريرك صفير، ليشكره فيها على خدمته بعد 25 عاماً على رعايته للكنيسة المارونية في تلك المرحلة الصّعبة والخطيرة من تاريخ لبنان الحديث، قائلاً: “أرحّب بقراركم الحرّ والشّهم والذي يعبّر عن تواضع كبير و تجرّد عميق. واني متأكّد من أنكم سترافقون دوماً الكنيسة المارونية بالصّلاة والمشورة الحكيمة والتضحيات.”

ويأتي قدّاسنا اليوم لنتأمّل بسيرة حياته وإنجازاته للكنيسة وللوطن. والكل يجمع على أنّه كان ركناً روحياً كبيراً من أركان الكنيسة، ودرعاً واقياً للبنان، يصلّي لأجل شعبه ليبقى مؤمناً وحراً ومستقلاً اذ كان يردد: “الحرية اذ عدمناها لا سمح الله عدمنا الحياة”.

وعن صموده وعمله الدؤوب لتحرير أرض لبنان من كل احتلال ووجود عسكري غريب ولأنه لم يكن ليرضَ بأقل من السّيادة والحرية و الاستقلال لبلده و شعبه، قال صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي في عظة رثائه: “لقد رأى الكثيرون فيه بطريرك الاستقلال الثّاني وبطريرك المصالحة الوطنية، والبطريرك الّذي لن يتكرر، المناضل والمقاوم من دون سلاحٍ أو سيف، بل كان صمّام الأمان لبقاء الوطن و ضمانة استمرار العيش المشترك بين اللّبنانيين، تميّز بالأصغاء، يتكلّم قليلاً ويتأمّل كثيراً، ثمّ يحزم الأمر ويحسم الموقف.”

وأضاف: “كجبلٍ صامد لا تهزّه ريح، أمديحاً كان أم تجريحاً، أم رفضاً أو انتقاداً لاذعاً، لقد كان في كل ذلك يزداد صلابةً على شبة شجرة الأرز الّتي تنمو وتقوى وتتصلب بمقدار ما تعصف الرّياح بها وتتراكم الثّلوج حولها وعلى أغصانها.”

أيّها الاحباء،من الانجازات الكنسيّة الكبيرة التي قام بها البطريرك الراحل والتي يجب التوقف عندها هو المجمع البطريركي الماروني  الذي دعى الى انعقاده برسالة عامة وجهها  في  عيد القديس مارون سنة 2003، بعد سنوات طويلة من التفكير والعمل والتحضير. وترأس غبطته كل جلساته في دوراته الثلاث على مدى ثلاث سنوات. وفي ختام المجمع في 11 حزيران سنة 2006 قال: “نحمد الله على عقد المجمع وانجاز ما ألينا على نفوسنا انجازه….أمّا وقد أصبحت وثائق المجمع البطريركي بين أيديكم، فنرجو أن تشكل لكم مرجعاً تعودون إليها للاستنارة بما فيها من توجيهات سليمة تتعلق بحياة الكنيسة وتعاليمها ورسالتها.”

وفي الختام كلنا رجاء أنّ المثلث الرّحمة أغمض عينيه عن هذه الدّنيا، ليفتحها على بهاء النور الأبدي في الملكوت السماوي حيث سيبقى ساهراً ومصلياً لشعبه وكنيسته من حيث هو في السّماء بصحبة الأبرار والصّديقين.

وكما نردد بحسب التّقليد الكنسي  أنّ مجدَ لبنان أُعطي له، نقول اليوم مع رحيل البطريرك الكبير مار نصرالله بطرس صفير: إنّه بالفعلِ كان مجداً أُعطي للبنان. فلله التسبيح والشكران الآن والى الأبد، أمين.