لا يشبه النظام السياسي القائم في لبنان أي نظام سياسي ديمقراطي برلماني في العالم، إلا من حيث الاسم فقط، فهو لا يحمل من عناصر الديمقراطية الحقيقية إلا عنصر الحرية فقط، والذي يمارس بصورة متفلته، وأبلغ من عبّر عن هذه الحقيقة الرئيس الدكتور سليم الحص عندما قال: ” في لبنان الكثير من الحريات والقليل من الديمقراطية “.
أما العنصر الأهم والذي يشكل العمود الفقري لعناصر الديمقراطية، أي حكم الشعب، وإنه هو صاحب السيادة الكاملة يمارسها ضمن أطرٍ دستورية تقوده إلى توكيل حاكم يمارس فعل الإمرة عليه، شريطة أن يقوم الحاكم بالمقابل بممارسة فعل الطاعة للقواعد الدستورية القائمة والمستمدة شرعيتها ومشروعيتها من الإرادة الحقيقية للشعب المحكوم، يتوجب خضوع المحكوم لقرارات الحاكم الخاضع بدوره لإرادة القواعد الدستورية التي أقرّها المحكوم.
تنص الفقر “د” من مقدمة الدستور اللبناني على ان ” الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”. إذا ما تمعنّا بنص هذه الفقرة وعمق مضامينها، نجد أن الشعب اللبناني قد تعرض لخديعة كبرى من قبل منظّري النظام السياسي، لأن هذه الفقرة تؤكد وجوب إنبثاق الدستور عن الإرادة الشعبية عبر إجراء إستفتاء يُستمزج من خلاله الشعب مدى رضاه على مواد هذا الدستور واقتناعه بقدرته على تكوين آلة للحكم تعمل على حماية مصالحه وإستقراره وأمنه ورفاهيته ومستقبل أبنائه في وطنه، وهذا لم يحدث ولو مرة واحدة في تاريخ لبنان السياسي.
في زيارة لمجموعة من الجامعيين والأكاديميين للرئيس أمين الجميّل في خلال توليه سدّة الرئاسة الاولى، إستمزج بعضهم رأيه حول شرعية الدستور اللبناني، ومن أين يستمدها؟ وكيف يحوز على مشروعيته الشعبية الحقيقية؟، وكيف يُعبر عن رضى المحكومين وقبولهم في شكل السلطة القائمة، في حين أن السلطة لم تعمد إلى إجراء أي إستفتاء في تاريخ لبنان، يومها أجاب: ” إن الدستور اللبناني ذو طبيعة خاصة، فهو لم يصدر عن الشعب طبقاً للفقرة “د” من مقدمة الدستور، بل إنّه صادر عن الروح الطائفية الممثلة لهذا الشعب”، وعند سؤاله أيضاً عن ” ما هي هذه الروح الطائفية؟، من يمثلها؟، ومن يعبّر عنها دستورياً؟، أجاب بكل ثقة : ” ان الروح الطائفية للشعب اللبناني يمثلها زعماء الطوائف وليس الشعب مباشرة “.
إن النواب الثمانية وخمسون الذين اجتمعوا في الطائف وقاموا بإقرار وثيقة الوفاق الوطني، والتي تحوّلت لاحقاً إلى دستورٍ للبنان، لم يسألوا الشعب ولم يستشيروه، بل أخذوا موافقة زعماء الطوائف فقط، أي أرواحها وفقاً لتوصيف الجميّل، والذين بدورهم كانوا يتواصلون مع مرجعياتهم الإقليمية نتيجة للتشظي الهائل الذي أصاب الهوية اللبنانية في هذا التزاوج الشاذ بين منطق الدستور وسراب الميثاق.
يُستنتج مما تقدم، بأن الإرادة المكونة للدستور اللبناني هم زعماء الطوائف وليس الشعب، وهو يدين، أي الدستور، لهم بشرعيته ومشروعيته المستمدة منهم كزعماء لهذا الشعب، وبالتالي فإن كافة المؤسسات الدستورية والقضائية والعسكرية والإدارية في البلاد، تستمد شرعيتها وقوتها القانونية من زعماء طوائف لبنان.
إذاً، الحقيقة واضحة، زعماء طوائفنا هم أصحاب السيادة، هم أقوى من الدستور، هم فوقه، هم صانعوه، هم فوق آليات اي نوع من المحاسبة، وآليات الإدانة طبعاً، فكيف يُسأل أو يُحاسب من أعطى الشرعية لدستور البلاد، إذ أنه لا يستطيع مولود أن يحاسب من كان سبباً في ولادته، وكيف يستطيع موجود أن يُسائل من كان علّة وجوده، زعماء وطوائف لبنان، هم أصل الدستور وعلّة وجوده، هم يملكون ويحكمون، كلّ لبنان بتصرفهم، مؤسساته، أجهزته، إداراته، سلطاته، أراضيه، مشاعاته…
لا بأس أيضاً في قليل من الدماء، دماء الفقراء ضرورية أحياناً لاستمرارية سطوتهم، ومن ثم يدعون للعودة مجدداً إلى أنشودة الوحدة الوطنية، والجماهير العمياء جاهزة لتأليههم دوماً، كيف لا والمؤسسات بكاملها هي ملك لهم، هم ربّ عملها، يخضع الأكثر جدارة في تمثيل دور العبد في قصور سلاطينهم لينال أعلى الوظائف والمرتبات.
إنتاج الكراهية والتعصب بين اللبنانيين مسألة ضرورية وأساسية لطغيانهم في كل ملف ومسألة، وجعلوا من شباب لبنان وخريجي جامعاته أصناماً لا روح فيها ولا حياة، فنظام لبنان التربوي أطاح بشخصية المواطن اللبناني وأعطب قدرته على التركيز وجعل منه شخصية معقدة.
هذا النظام يستبطن تحالف قوي ومتين قائم بين السياسة والمال والأمن ورجال الدين، والطبقة الحاكمة آلهة في النظام الطائفي، لديها سطوتها ونفوذها ورجالها وعصاباتها، ولا يمكن حتى الإشارة إليهم بشيء، هم يملكون إرادة الطوائف وعزّتها وأصلها، وكرامتها، يملكون حقوقها ووظائفها.
يكفي الاشارة الى ان كبار الموظفين الجدد عندما يُعينون في وظيفة كبيرة مخصصة لطائفتهم، ويرون كمّ المخالفات والمسروقات التي فعلها اسلافهم، يصمتون، لماذا؟ لأن الموقع المسروق يمثل كرامة الطائفة، أما كرامة الوطن فحدّث ولا حرج.
من تجربتي في هذه الدولة، ولأكثر من خمس وثلاثين سنة، ومتابعتي لآلية عمل هذا النظام عن قرب، تبيّن لي دون أدنى شك بأن المؤسسات التي يديرها مسيحيون أو ذات عصب مسيحي كبير هي مؤسسات فاسدة ومسروقة، يعشش فيها سوء الأمانة والإختلاس والسرقة والهدر، والامر نفسه ينطبق على المؤسسات التي يديرها مسلمون أو ذات عصب مسلم، فهي مؤسسات فاسدة ومسروقة أيضاً، تحول فيها ومعها كبار الموظفين إلى كبار الأثرياء.
هكذا يتّم إحترام روح الميثاق الوطني في لبنان، وهذه هي الصيغة اللبنانية الخلاقة، وهكذا يتم تطبيق التعددية في وطني، مما يحتّم علينا، ولكي نتصالح مع أنفسنا، أن نعمل على تعديل نص الفقرة “هـ” من مقدمة الدستور لتصبح على الشكل التالي: لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق النهب المشترك.
وجيه رافع
عميد متقاعد في الجيش اللبناني