بقلم بيار سمعان
تشهد باريس والعواصم الفرنسية موجة من المظاهرات العنيفة والصدام المباشر مع القوى الامنية احتجاجاً على رفع سعر البنزين.
آلاف المواطنين نزلوا الى الشوارع منذ عدة ايام وعبثوا بالممتلكات العامة ودخلوا في مواجهات مباشرة مع عناصر الشرطة، مما اوجب في بعض الحالات اللجوء الى قوات الجيش وعناصر مواجهة اعمال الشغب.
قرار واحد زرع الفوضىفي المدن الفرنسية وتسبّب بإحداث اضرار بلغت كلفتها ملايين الدولارات. وطالب المتظاهرورن بإقالة الرئيس الفرنسي ماكرون، وتدخلت الشرطة الفرنسية لمنع المحتجين من الوصول الى قصر الإليزيه، مستخدمة الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. وعمد المتظاهرون الى بناء حاجز اسمنتي امام البرلمان لمنع دخول النواب اليه.
وردّد المتظاهرون النشيد الوطني ملوّحين بالعلم الفرنسي، بينما رفع آخرون لافتات كتب عليها:
ماكرون= استقالة، وماكرون = لص.
< لبنان المعطل
الانتفاضة الفرنسية التي تسببت حتى الآن بمقتل شخصين واصابة نحو 300 بجروح مختلفة، رغم كل الحوافز والاغراءات التي قدمتها الحكومة الفرنسية لمواجهة غضب الشارع تدفعنا للتساؤل حول حالة الجمود السائد على الساحة الشعبية في لبنان وغياب ردود الفعل لدى اللبنانيين، رغم كل المآسي والضربات والقرارات المجحفة بحق المواطنين. فلماذا لا ينزل اللبنانيون الى الشوارع ليعبروا عن امتعاضهم ورفضهم الحالة الرديئة والظروف الصعبة التي يعيشونها منذ سنوات والتي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم؟
< مظاهر الازمة في لبنان
كما اصبح معروفاً يعاني اللبنانيون من حالة التعطيل والشلل شبه الكامل للدولة والمؤسسات في لبنان. تعطيل في تأليف الحكومات السابقة وتشاؤم حول امكانية تأليف الحكومة الحالية التي اصبحت تعرف بحكومة العهد الاولى.
وكان سبقها تعطيل في الحكومات السابقة لمدة زادت على خمسة اشهر لكل منها. وتعطيل الدولة لمدة سنتين ونصف ابان انتخاب رئيس للجمهورية. ويطال التعطيل والفساد معظم المؤسسات الادارية والخدماتية، لدرجة ان المدير العام او الوزير اصبح «الحاكم بأمر الله» يقرّر عمل وزارته او دائرته ، ونوع الخدمات التي توفرها والناس الذين يستحقون الاستفادة منها بعيداً عن سياسة الحكومة.
فالدولة بكامل مؤسساتها فشلت في معالجة النفايات ورفعها من شوارع المدن الكبرى، رغم كل العروض التي تلقاها لبنان من دول خارجية عرضت شراء النفايات لاعادة تدويرها او الاستفادة منها لانتاج الطاقة والاسمدة.
البلد يعاني من انقطاع التيار الكهربائي منذ عشرات السنين رغم المليارات التي خصصت لمعالجة هذا القطاع وتوفير الكهرباء 24/24 كما تعهد اكثر من وزير ومسؤول. طارت الاموال وبقي لبنان يعاني من الظلمة. وتقاسمت المرجعيات الحكومية ابتزاز الناس مع اصحاب مولدات الكهرباء الذين تحولوا مؤخراً الى «مرمى حجر» وموضع اتهام من قبل الاجهزة الحكومية، وكأن هؤلاء مسؤولون فعلاً عن وجود ازمة طاقة في البلد.
لقد تناسى الوزراء المتعاقبون ان توفير الطاقة بشكل كافٍ ودائم يلغي دور هؤلاء . فلا حاجة لتركيز عدادات كهرباء خاصة بهم، لأن مثل هذا التدبير يمنحهم صفة الشرعية، التي ستكلف الدولة لاحقاً الملايين من الدولارات، عندما يطلب اليهم نزع العدادات لأن الكهرباء اصبحت متوفرة بشكل ثابت ودائم.
ولبنان هذا البلد الذي وصف بسويسرا الشرق تشوّهت كل معالمه الطبيعية بسبب انتشار «المقالع والمرامل والكسارات» وتلوّث مياه الينابيع والانهر، ودمج مجارير مياه الشفة بمجارير الصرف الصحي. فانتشرت الاوبئة الخطيرة، وفي طليعتها الامراض السرطانية . فلا المسؤول يقوم بعمله ويُسأل او يُلاحق، ولا الناس تشتكي او تعترض وتقرّر النزول الى الشارع للتظاهر ضد سياسة الظلم اللاحق بهم.
فلماذا لا يجتمع اللبنانيون على القضايا التي تؤثر على حياتهم اليومية وعلى صحة ابنائهم وعلى مستوى معيشتهم؟
لماذا لا يعترض اللبنانيون على رداءة الطرقات وزحمة السير الخانقة؟
فحوادث السير في لبنان اصبحت مسلسل شبه يومي يحصد العديد من ارواح اللبنانيين على الطرقات، وبوتيرة متصاعدة.
في سنة 2014 قتل 255 شخصاً وجرح 2225 على طرقات لبنان. اما معدل ضحايا السير اليوم خلال عام 2017 بلغ 5 آلاف قتيل وجرح الآلاف، مع غياب معايير السلامة علىالطرقات وعدم التقيّد بقوانين السير ولارتفاع الضغوطات الاجتماعية والمعيشية على المواطنين.
< انتحار وطلاق
ومن مظاهر المآسي التي يعيشها اللبنانيون منذ سنوات هو الارتفاع في معدل الانتحار او محاولة الانتحار في بلد لا يزال يعتبر انه غير صناعي، محافظ ومؤمن ومتماسك اجتماعياً. وتقدّر محاولات الانتحار في هذا البلد حوالي 2 في المئة. اي ان شخصين من كل مئة لبناني حاولوا في وقت ما انهاء حياتهم.
وفي آخر احصاء لهذا العام (2018) سجل ما مجموعه مئة حالة انتحار حتى آخر شهر ايار الماضي، مقابل 143 حالة انتحار في عام 2017 و144 في 2014. اي ان مئة شخص اقدموا خلال 5 اشهر على الانتحار. وهذه نسبة مرتفعة لبلد صغير مثل لبنان، لكنها تعكس بالواقع الحالة الاجتماعية والمعيشية المتأزمة والتي انعكست سلباً على نفسية المواطنين وعلى عجزهم عن التكيّف مع الضغوطات الاجتماعية وغياب المسؤولية. فلجأ العديد منهم الى الكحول والمخدرات او الانتحار.
ومن المظاهر السلبية الاخرى لصعوبة الحياة والتبدلات الاجتماعية، والتفكّك الاجتماعي في لبنان هو ارتفاع معدلات الطلاق.
تشير الارقام انه منذ مطلع عام 2018 حتي اليوم سجلت 8 آلاف حالة طلاق لدى الطوائف غير المسيحية، اي ما يوازي 22 حالة طلاق يومياً.
في عام 2017 كان معدل الطلاق في لبنان لدى جميع الطوائف 7 آلاف حالة فقط. لكن معدل الطلاق حتى اليوم (2018) ارتفعت الى 8580 حالة لدى كل الطوائف، اي بزيادة 22،5 ٪ عما كانت عليه في السنوات الماضية.
ورغم ان الفروقات في سن الزوجين والعادات والخيانة والفلتان هي من اهم الاسباب الدافعة الى الطلاق، غير ان الوضع المعيشي والضغوطات الاجتماعية وعدم قدرة الزوجين على العيش كما يتمنون تؤثر ايضاً في سوء العلاقات وزيادة الخلافات الزوجية.
< الشعب اللبناني لا ينتفض
رغم سرقة المال العام «عالمكشوف» واهمال المؤسسات الحكومية وغياب المساءلة، ورغم المحاصصة واستغلال المراكز للإثراء غير المشروع، ورغم غياب الخدمات الاساسية وانتشار «اكوام النفايات والتلوّث وكل الشواذات التي اصبحت من يوميات المواطن اللبناني… رغم كل هذه الشوائب، نادراً ما رأينا الشعب اللبناني يتحد للمطالبة بحقوقه والانصاف وبضمانات توفر الحد الادنى من السلامة العامة. فلماذا لا ينتفض اللبنانيون، وهم اعتادوا على التظاهر لدعم القضية الفلسطينية والقضايا العربية، كما اعتادوا على حمل السلاح للدفاع عن النفس ومواجهة التهديدات المحيطة بهم؟ لماذا غاب الحس الوطني اليوم وفقد الوعي الجماعي؟
< مجتمع مقسم
لا يختلف اثنان ان المجتمع اللبناني هو مجتمع شديد الانقسام منذ ما قبل الحرب اللبنانية التي زادته انقساماً على اسس طائفية ومذهبية. كما انه مجتمع مقسم سياسياً لدرجة ان قياداته السياسية والدينية في بعض الحالات اختصرت وجوده ورمزية توجهاته السياسية. واصبحت كل مجموعة دينية او سياسية لا تتحرك الا بقرار من سلطته السياسية او الدينية. واصبحت مصالح هذه الزعامات تختصر الجماعات التي تمثلها.
فإن كانت المحبة تبدأ بالذات، فعلى الشعب اللبناني اولاً ان يتحرر من القيود التي فرضتها عليه هذه القيادات واختصرت دوره وانتماءه الوطني، واصبح شبه مستحيل ان ينظر المواطن في هذه المجموعات الى المصالح الوطنية الا من خلال رؤية الزعامات لها وتوجيهها لمناصريهم باتجاه او آخر.
اللبناني اليوم فقد حريته بفعل التزلم الاعمى. وفقد الكثير من وطنيته لأنه اكتفى بانتمائه الضيق على حساب الانتماء الوطني.
اللبناني اليوم هو ابن بيئته الجغرافية، وابن طائفته ومذهبه وابن العقيدة السياسية التي تطبع حياته اليومية ومواقفهم الوطنية.
فالناس هم اعداء ما يجهلون. للأسف اللبناني يقرأ في كتاب واحد، وهو مقتنع بما يتلقاه من طروحات ومبادئ توفرها له بيئته الاجتماعية والسياسية.نحن نفتقر لقادة تتجرأ على مدّ اليد نحو الآخرين.
للأسف الشديد، بوجود هذا المناخ السياسي وتعدّد الرئاسات في الحكومة وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتجريده من ادوات تطبيق القوانين. يعيش لبنان اليوم حالة من الفوضى في المسؤوليات والغموض السياسي في منطقة مقبلة على تغيرات سياسية وجغرافية خطيرة.
فالضفة الغربية قد يجري ضمها الى المملكة الهاشمية، وسوريا تبحث عن دستور جديد في اجواء اقامة دولة سنية واخرى كردية الى جانب الدولة العلوية التي قد تستعيد لواء الاسكندرون. والعراق يعيش حالة تقسيمية الى ثلاث دويلات (شيعية وسنية وكردية) تغيب فيها الاقليات الاخرى.
فالخطورة القائمة حول تأليف الحكومة، لا تنحصر فقط في الخلاف على الحصص وتقاسم خيرات البلد، اذ قد تؤدي في حال استمرت الى تكريس واقع جديد يدخل في منظومة الشرق الاوسط الجديد.
ان مشكلة لبنان هي مشكلة الغد. ومشكلة لبنان اليوم هي ان الميليشيات التي دمرت لبنان طوال الحرب قد استولت على الحكم واحتلت الدولة اللبنانية، والشعب اللبناني لم يتحول بعد الى قوة تغييرية يكتفي بما يتلقاه من مساعدات واموال من هذا الفريق او ذاك. ألم نصفق للمقاومة الفلسطينية عندما كانت توزع المال على المناصرين؟ ألم نرحب بالجيش السوري عندما اقتحم واحتل الاراضي اللبنانية؟ ألم نرم الجيش الاسرائيلي بالأرز والورود، ولم نعقد الصفقات معه؟ جميعهم استقبلناهم بالأرز واطلاق العيارات النارية مرحبين بهم ثم انقلبنا عليهم.
فمتى يعبر اللبنانيون من سياسة المصالح والمذاهب الى اولوية الدولة والوطن؟
ومتى يعبر اللبنانيون من تشريع الفساد الى اولوية القانون والشفافية والمساءلة؟
بانتظار ذلك يبقى اللبنانيون اسرى انتماءاتهم الضيقة ومصالحهم الخاص.
أسفي على لبنان الذي اصبح فيه ابناؤه غرباء في وطنهم وتخدرت لعقولهم لدرجة فقدان الذاكرة والحس الوطني.