أمان السيّد كاتبة سورية مقيمة في سدني
لعلّه ليس من المألوف – إلا عند القليلين- أن يختار الحيّ المكان الذي يرغب أن يدفن فيه، ولعلّ من المستغرب أكثر أن يشتهي ذاك الحيّ مكانا محددا ليكون له المدفن، والمثوى.
فأن تكون الأرض التي تَحبلُ بالبغض المشتهاةَ كمدفن مطلبٌ يغدو غير متّوقع، وعلى الأخصّ حين يأتي من قبل من يتأذّون من شرورها، والذين يتمّنون لو يُطيّرُوا منها، فلا تلامس جثامينهم إيّاها.
وبما أنّه قد عُرف عن البشر تداولُهم أشكالا من الدّفن تختلف باختلاف معتقداتهم وثقافاتهم، لذا فقد عُهِد في بعضهم التّوصية بحرق الجسد بعد أن تفارقه الروح، فمنهم من يوصي بتلقيمه البحر، ومنهم يُؤثَر عنه الاحتفاظ برماده في إناء عازل لا يتعدى بحجمه عقلة الإصبع يخلّيه ذكرى لورثته، وآخرون كثيرون لا يفكرون بمخالفة تقاليد دين سماوي نشأوا عليه، أما بعض الأشخاص فقد لا تكون في بالهم الوصية مطلقا، أو لا تسعفهم ظروف تطرأ بأن يوصوا.
وأمام حلّ وترحال أزليين في حياة الآدميين، يضاف إليهما ما يتعلق بالتّشريد القسريّ الذي تفرزه حروب، وأطماع سياسيّة واقتصاديّة تخلّ بالموازين الاستقرارية، وتنتهي بفئات عديدة منهم إلى التشرّد واللجوء إلى أقاصٍ من المعمورة لم تكن بالبال، فإنّهم يصطحبون معها ثقافاتهم التي يمارسونها أينما تواجدوا، ومنها طرق دفنهم الخاصّة، وأساليب تقديم موتاهم إلى المثاوي الأخيرة.
وقد يكون من الملفت والنادر أن تتجمّع أشكال من الدّفن كتلك في مكان متفرّد بجماله الطبيعي، وفخامة تنظيمه ترمز إليه مقبرة شهيرة تعود إلى العصر الفيكتوري تحمل اسم « رووك وود» تتوسّط مدينة سيدني الأسترالية في إحدى ضواحيها المترامية الأطراف حيث ترتع الغابات بأشجارها المعمّرة أضيف إليها باليد البشرية تنسيق تلك القبور في مجموعات، وتشكيلات متقاربة منسجمة مع جنسيات ومساقي أهلها، ومعتقداتهم تظللها مشاتل الزهور الملونة المنسوجة حقولا يعرّش عليها ربيع دائم الحضور.
«رووك وود» ستجعل لاعتقادات البشر التي قرأنا وسمعنا عنها، فلسفتها التي تجعل من الموت الطبيعي اشتهاء، وسيكون حالة رفاهة مصحوبة بقراءة تتجاوز الملموس لتقفز في عمق تبصّر عجائبيّ المنبت يتجاوز فلسفة الموت، والفناء إلى ما تلمسه في أحياء يزورون تلك المقبرة، يدخلونها مدهوشين، ويغادرونها مصعوقين يلملمون شتات مشاهدات لما مَثُلَ أمامهم في بقعة هي شاسعة إذا ما قيست بمساحات المقابر المتعارف عليها في بلادنا العربية، صغيرة إذا ما قيست بمدينة ضخمة مزدحمة مثل سيدني، والأهم في الأمر كله ما يشيع في تلك المقبرة من السّلام والاطمئنان والتّعايش الذي أعجز البشر أحياء، فاستأنسوا به أمواتا.
ستندُّ عن الزائر صرخة تلقائيّة لن يستطيع السيطرة عليها ينطلق معها لسانه قائلا: إنّها الجنة!
هنا حيث يُدحر شياطين الأرض ومُتشيطونها الذين يجهدون على تكريس فكرة الإقصاء للآخر، وهنا في «رووك وود» حيث يتحوّل زائرها إلى روح شفّافة تطفو، تسرح، وتتأمّل المشاهد ترصفها مشهدا مشهدا، وتنقّب عن المزيد.
قد يتساءل زائرها بماذا سيبدأ، وأين سيتوقف؟! فكلّ شيء تمسحه عيناه يبهره ويدفعه إلى التفكّر، والاندهاش، سيشعر بحصار تلك المقبرة يباشره باسمها المنسوخ على لوحات خُضر تحملها طرقات رئيسة، وفرعية ترشده إليها، وستلاحقه أسوار المقبرة منتصبة أينما اتّجه بما يتطاول فيها من الأشجار بخضرتها الثرية، تنزرع بينها قبور متجاورة قد اسودّت بفعل التّقادم، يصيب منظرها بالارتعاش، والبعثرة، ولا سيّما حين تقفز لسائق سيارة حديثِ التّواجد في البلاد.
أما شواهد القبور التي تعتّقت حجارتها بمرور مئات السنين، فإنها تتصوّر في الظّلمة أشباحا مشرئبّة مريعة تشعرك بأصحابها يتراكضون، ويطاردون بعضهم، أو أنهم يمارسون رياضة الجري التي يمارسها الأحياء القاطنون قريبا منهم في حدائق مشابهة مفعمة بالخضرة أيضا، أو تحسبهم أفرادا يطوفون ساعين للاغتسال من جَلد ذنوب تلسعهم.
شواهد لقبور بعضها حُمّل بالصّلبان، وبعضها خلا منها، ومنها ما برز منحنيا بشكله في إيحاءات دينية تخصّ من تطويهم في حجارتها.
أمّا عن الأسوار التي لا تُخفي ما بداخلها، فقد تكون غايتها الحفاظ على جسور من التّواصل مع القاطنين خارجا، في الفيلات الأنيقة المجاورة، ومع عابري الحياة إلى أعمالهم في قطارات صَخبُ ثرثرتها لا يتوّقفُ.
ألمْ تذكر الجنة بأنها سكينة السّكينة، وأنها السّحر المُهيمن، وأنها الجنائن، وأنها الخالية من التلوّث البشريّ بشروره وظلماته وآثامه، وأن المحظيّ بها ستُمسح من ذاكرته جميع الصور الدنيوية البغيضة التي حُشرت بها؟! مما لا شك فيه أن زيارة تلك المقبرة أشبه بذلك!
في الداخل حيث الطّرقات المرصوفة بتنسيق أخّاذ تُظلّلها أشجار أسترالية متنوعة منها أشجار الكينا برائحتها الفوّاحة تَهَبُ للمكان اطمئنانا عجيبا يلوح في هدوء المدافن، واستسلامها عبر ألوان تشرق فيها شمس تكثرُ من الطّفو والطّوفان، وطيور، ومشاتل من الزهور ميّزت كلّ بقعة بلون استثنائيّ، فتشكّل البنفسجيّ إلى جانب الورديّ، والأبيض في تصنيفات مبهرة في انسجام لقبور الموتى ضمن أقسامها المرتّبة هندسيّا، فهنا مدافن للصينيين، وهناك مدافن لليابانيين، والأستراليين، والمسلمين، وضحايا الحروب والهلوكوست، ومدافن أطفال وُلدوا موتى، وأطفال ماتوا في أعمار صغيرة، ومدافن لعظماء وأخرى لمجرمين، وغيرها لفنّانين، ولآخرين مجهولين قُدّر لهم أن يُواروا الثّرى هنا.
أما الأساليب، والوسائل التي يُرفع بها الموتى للثّرى، فقد حُسب لها حسابها في هذه المقبرة تسهيلا على القائمين بالعمل، فهناك جانب من أرض المقبرة جُعل محرقة لموتى اليابانيين قديما وحديثا، حملت رفاتهم منذ الحرب العالمية الثانية يُحبس رمادهم بعدها في زجاجات صغيرة تُزيّن بشرائط رقيقة، وتُودع في فتحات كأنها عيون حُفرت في جدران وطيئة يتخيّلها المتابع تشكيلات زخرفية غامضة، كما وأنّ هناك رقعا لمن ينتمون إلى جنسيات أخرى يمارس أصحابها عليها طقوس الوهب إلى الموت، كما أوجد جانب من المكان بُني فيه مغسل، ومصلّى صغير للمسلمين يُنسب إنشاؤه إلى جمعية للبنانيين المسلمين القادمين بعد الحرب الأهلية حيث لم تكن مدار اهتمام من سبق من الشعوب المسلمة غير العربية، أما عن « دائرة الحب» المحدّدة للأطفال، فقد تكون مدعاة أعمق للتّأمل والحزن، ولا سيّما ما يصاحب القبور الصغيرة من عبارات الحب والتّذكارات الحميمة التي يتركها الأهل والمحبّون هناك.
يُخبر أحدهم أنّ التّكنولوجيا قد رُفدت بها المقبرة، لا كوسائل تواصل، وصفحات اجتماعية بين الأموات الذين هم مُستغنون عنها بالطّبع، ولكن لحجز القبور بشكل مسبق للقاصدين عن طريق الشبكة الألكترونية، ويُبدي المُخبر أسفه، وهو يؤكّد أنّه لم يعد متّسع في تلك المقبرة لوافد جديد، غير أنه يستدركُ، فيقول: إنّهم يفكّرون بحلّ معقول، وهو بجعل المدافن طوابق.
للقارئ أن يتخيل ما الذي ستفقده تلك المقبرة حين تتحوّل إلى مستعمرة من الباطون المسلّح، وأيّ حرب سيشعلها جَشع الحيّ الذي ضاق به الرّحب ليتاجر بالرّاقدين رقدتهم الأخيرة.