د.ماري سكر
هنالك خشية في لبنان اليوم من المهجَّر او المهاجر، لأن هنالك من يفكرون اليوم في منطق العزلة، أو يعملون ضد ثقافة الانتشار وفلسفة الانفتاح التي يتباهى بها اللبنانيون. فيما الأجدى العمل بمنطق الفتح والكشف اذ أن فتح قناة فضائية هو اكثر فاعلية في عصر العولمة والشبكة الكونية من رفع شعارات السيادة والحرية.
فعلى الصعيد الثقافي لا مجال للتمييز بين ما للبنان وما لسواه من العرب. فالحدود هي هنا مائعة ومختلطة، كما تشهد الوقائع. فاللبنانيون يسمعون فيروز بقدر ما يسمعون أم كلثوم، ويقرأون شعر سعيد عقل وأنسي الحاج كما يقرأون شعر نزار قباني وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وأبي القاسم الشابي، ويدرّسون أبناءهم نصوصاً لجبران وميخائيل نعيمة كما يدرّسونهم نصوصاً لطه حسين وعباس العقاد. ويهتمون بأعمال شارل مالك وعبدالله العلايلي بقدر ما يهتمون بأعمال صادق جلال العظم وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري. وهذا شأن سائر البلدان العربية في مجال الانتاج الثقافي والفكري: لا سبيل لوضع الحدود الفاصلة بين بلد عربي وآخرهذا ولا ننسى أن اللبنانيين، مقيمين ومهاجرين، ساهموا في النهضة العربية الحديثة وكانوا من روادها، كما تشهد أسماء البستاني واليازجي وجرجي زيدان وشبلي الشميل وفرح أنطون. وفي المقابل أصبحت بيروت، بعد نكبة فلسطين واضطراب الاوضاع السياسية في بعض البلدان العربية، مركزاً لاستقطاب العقول والاموال، وشكلت منبراً صحافياً وفسحة تنويرية لممارسة حريات التفكير والتعبير، الامر الذي جعلها يومئذٍ عاصمة ثقافية للعالم العربي قبل تسميتها بعقود، وجعل الكثيرين من الشعراء والكتّاب العرب يعلنون ولادتهم الثانية، اي الفكرية والرمزية، في بيروت.واليوم، تبدو الظاهرة أجلى وأوسع واكثر تعقيداً أو غنى. إذ يكاد العالم العربي يتحول فضاء معلوماتياً واحداً وسوقاً معرفية جامعة، كما تشهد الندوات والمؤتمرات الفكرية المتنقلة بين العواصم العربية، وكما تشهد بشكل خاص المداخلات او المناظرات السياسية عبر القنوات وسواها من النشاطات الثقافية والاعلامية التي يشارك فيها اللبنانيون بصورة مثمرة وفاعلة. على هذا الصعيد، من الانتاج الثقافي والاعلامي، يبدو لبنان أوسع من مساحته الجغرافية بكثير. فمجاله يتعدى النطاق العربي نحو الفضاء العالمي مع جبران والصباح وشحادة ومعلوف. انه مجال يتغذى من المراكز الثقافية والدينية العربية والعالمية بقدر ما يساهم في تغذيتها، سواء تعلق الامر بالفاتيكان وروما ام بالازهر والنجف، أم بباريس وواشنطن أم بكيبيك وسيدنيونيويورك…
من هنا فإن نزعات التعصب لثقافة لبنانية او مصرية او مغربية او سوى ذلك، كما تطالعنا احياناً اخبار المعارك بين المثقفين العرب حول المحاصصة في هذا الفن او ذاك، إنما هي ضد منطق العصر، بقدر ما تشهد على انقلاب اصحابها ضد شعاراتهم ذات الطابع الوحدوي او الاممي والعالمي. في كل حال، لم يعد ممكناً أن نفكر او نعمل لبنانياً، بالعزلة عن العالم العربي. وبالعكس. هذا واقع يتشكل على الارض، ولا مجال للقفز فوقه، دفاعاً عن لبنان متوهم هو مجرد اطياف او تهويمات تعود بالضرر على اصحابها وعلى اللبنانيين جميعاً. فالقنوات والشبكات والاسواق والسلع تعمل على توحيد اللبنانيين والعرب، بقدر ما تعمل على تفريقهم العقائد والمذاهب او الاحزاب والمنظمات. هكذا، فإن لبنان يتعورب اعلامياً واقتصادياً، ومن المفارقات أن الذين يرفضون العروبة كشعار سياسي او مذهب عقائدي إنما هم منخرطون في العوربة الاقتصادية والاعلامية بشكل او بآخر، مما يعني أن المسألة لم تعد قط مسألة انعزال عن محيط عربي، بل هي لم تكن يوماً كذلك، وإنما هي مسألة اختيار بين عروبة وأخرى. حتّى الذين يتّهمون بالانعزال، إنما كانوا في صفٍّ عربي ضد صفّ آخر.
ومن هنا لا بد من التحرر من وهم الهوية الصافية والمتجانسة للتعامل معها بمنطق تعددي تركيبي. التعدد لا يعني مجرد القبول بتعدد الطوائف والجماعات والاحزاب، وإنما يعني أن الهوية هي حيّز للتعدد والتنوع او مجال للشقاق والتوتر. إنه يعني أن الآخر هو شطر الذات بقدر ما يلابسها ويتلبّسها، الامر الذي يجعل هوية المرء ملتبسة، اي متعددة الوجه والصوت. وهذا شأن اللبناني: فالمسلم له وجه على المسيحي الذي يسكن عقله. وبالعكس. والشيعي له وجهه السني او الدرزي. وبالعكس. وكذلك الماروني والارثوذكسي، أو الأرمني والكردي
والقبطي. وهكذا، كل واحد من كل واحد. وهذا التعدد هو مصدر غنى وثراء للشخصية والهويةوهذا هو المسكوت عنه في لبنان. نحن نتعصب بعضنا ضد البعض، بقدر ما نتناسى أن الواحد منا يتأثر بالآخر ويؤثّر فيه، أو يفيد منه ويساهم في إغنائه. فالاولى أن نتقن فن التعايش مع انني ضد العبارة الأخيرة والأفضل القول بالعيش بعقلية الانفتاح ولغة التعدّد والتداول، فكيف ونحن ندخل في عصر بدأت تتشكل فيه هويات هجينة أصحابها أناس متعددو الجنسية والاقامة او اللغة والثقافة… يتبع
mariesuccar.63@gmail.com