لميس طوبجي – سدني

في كلِّ ما نَفْعلَه ثَمَّةَ شيءٌ خَفِيٌّ غيرُ مرئيّ، شيءٌ يشبه حبَّات الرِّمال الذَّهبيَّة النَّاعمة والتي تنزلقُ من بين أصابعنا ببساطة. تماماً كما تنزلق في السَّاعات الرمليَّة من كرة زجاجيَّة نحو كرة ثانية متَّصلة فيها عبر فتحة ضيِّقة. إنَّ الوقتَ الذي تستهلكه الكرة العلويَّة لتغدو فارغة يعتبر مقياساً للزَّمن فيقيسُ ساعةً أو نصفَ ساعةٍ أو ربَّما دقيقةً لا أكثر، وحين تمتلئ الكرة السُّفلى بالرِّمال تُقلَبُ السَّاعةُ لتُعادَ الكَرَّة. الدَّقيقةُ قد تبدو شيئاً بلا قيمة، لكنَّها كانت قيِّمة لدى بحَّارة القرون الوسطى الذين كانوا يستخدمون أداة مثل الساعة الرملية ليتمكَّنوا من حساب سرعة سُفنهم. دقيقةٌ ونصف قد تبدو زمناً لا يكفي لعمل شيء لكنَّها كانت كافيةً لعرض فيلمٍ قصيرٍ اسمه «أنا والسَّمكة». يرنُّ جرس الهاتف في منزل رجلٍ ضريرٍ ووحيد، فيسرعُ ليردَّ على المتَّصل. يصطدم من غير قصد بحوض سمك صغير تسبح في مائه سمكة، فينكسر الحوض. ينزل على الأرض ليبحث عن السمكة بين الماء وقطع الزُّجاج فلا يجدها. يبحث عن فتحة تصريف المياه في الأرض، يخلع سُترته ويسدُّ الفتحة فيها، ثمَّ يملأ دلاء ماء ويصبُّها فوق الأرض بسرعة كبيرة، ثم يجلس على الأرض مستسلماً للانتظار، فإذا بالسَّمكة تسبح باتجاهه وتختبئ في حضن يده وبين أصابعه بعد أن أعاد البحر إليها وأعادها إلى الحياة.

دقيقةٌ ونصف كانت كافية لتمثيل مشهد صامت ممتلئ بالحياة وفارغ من الكلمات.كانت الكلماتُ مختبئةً خلف ستارة من الصَّمت، مختبئةً فوق ورقةٍ سجَّلتِ الفكرة وأحداث المشهد. لم تكن دقيقة ونصف بحاجة إلى كلمات ولا ألوان لنقل فكرة. لكنَّ فيلماً طويلاً قد يكونُ مملَّاً وتكون متابعتُه نوعاً من التَّعذيب فيما لو خلا تماماً من الكلمات.

في سيدني يتجمَّع النَّاس حول رجل مطليٍّ بمساحيق تجميل بلون الذَّهب، و يرتدي ملابسَ بلون الذَّهب يتربَّع فوق الهواء، ويتَّكئ بيده على عُكَّاز من حديد يثبِّت فيها جسده كله. ينحني المارَّة لوضع حفنة نقود للرَّجل الذهبي، يهزُّ رأسه موافقة على التقاط صورة معهم. يبتسم وتلمع غمَّازتاه تحت الذهب. يشير على الناس أن يسحبوا ورقة من كيسٍ شفَّاف صغير ممتلئ بوريقات ملوَّنة. يتجمَّع الناس حول الرجل المتربِّع فوق الفراغ مندهشين من منظره، ومتشوقين لحكمة أو نصيحة تأتيهم فوق ورقة ملونة يسحبونها. ورقةٍ لن تدرَّ عليهم أموالاً بل كلمات.

«يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات» تغنِّيها ماجدة الرُّومي، فنطير مع الغيمات لندرك أنَّ كلمات العاشق لمحبوبته ليست سوى نجمات ذهبيَّة صغيرة أو حلويات للقلب. يطير الإنسان إلى بلاد أجنبيَّة لا يتقن لغتها فيدرك أنَّ الكلمات مهما كانت بسيطة، فإنَّه حين يتقنها تغدو عكازاً يمكِّنهُ من الوقوف والحركة والحياة والمعرفة والعمل في غربةٍ أشبه بالرِّمال المتحرِّكة.

بالأفعال والأقوال نملأ ساعاتنا الرمليَّة، وبالأقوال والأفعال نساعد من حولنا أو ندمِّر بعضنا. «استمرَّ في الحلم» جملةٌ قد يقولها صديقٌ لصديقه بعد أزمة، فيُوقظ أحلامَهُ النائمة ويسحب روحه من وحل الكآبة.  «وُلِدَ نائماً» جملةٌ كتبها أطباء فوق بطاقة تحمل صورة مولود وتاريَخ ولادته في إحدى مستشفيات لندن، وأعطوها إلى أمٍّ أنجبت طفلاً فاقداً للحياة، فخفَّفوا فاجعتها عبر المفردات. «هل أنت بخير؟» سؤال يرميه صديق في بريد انتظار صديقه المغترب. سؤال يفتح نافذة سحريَّة عبر القارَّات والمحيطات، يطلُّ منها قلب الصديق فيطمئنُّ المغترب لقرب أخيه البعيد لا جاره القريب.

تغدو الكلمات أشبه بلعبة في يد الشُّعراء والكُتَّاب تماماً كما الرِّيشة في يد الرسَّام، ويصبح علينا أن ننظرَ إلى ما وراء الكلمات لنفهم المقصود والمطلوب، فالقدماء الذين قالوا عن أحد الأقوام أنهم كثيرو الرَّماد لم يقصدوا الرَّماد بحدِّ ذاته، بل أنَّ القوم دائمو الضِّيافة وكرماء. والذَّين قالوا إنَّ الدِّماء لا تتحوَّل ماء أبداً كالذين قالوا في الإنكليزيَّة the blood is thicker than water   لم يكن قصدُهم الماءَ ولا الدِّماء، وإنَّما صلة الرَّحم والقُربى والأقرباء. تغدو الكلمات لعبة بين أيدينا ونحن نلهو بلعبة الكلمات حين نأتي بكلمة إنكليزية ونشتق من حروفها كلمات جديدة. ستكون الكلمة مثل نبع ماء وتتدفَّق منها ينابيعُ صغيرة، علينا فقط أن نتقيَّد بالحروف ذاتها، ونعيد ترتيبها لتشكيل الكثير من المفردات.

كانت السَّاعة الرمليَّة من أوائل الأدوات التي تمَّ ابتكارها لتقدير الزَّمن، كي يعلم المتحدِّث كم من الزَّمن عليه أن يستهلكَ للكلام، وكان يحتاجها قائد السَّفينة وهو في قلب البحر ليقيسَ سرعة سفينته، ولا يزال البرلمان الأسترالي حتَّى يومنا هذا يستعين بالسَّاعة الرمليَّة إضافة إلى الساعة الرقمية لتوقيت دقيقة أو أربع دقائق مُدَّةَ رنينِ الجرس المُنبِّهِ لأعضاء البرلمان للبدء بالتَّصويت.

«على هذه الشواطئ أتمشَّى أبداً، بين الرَّمل والزَّبد .إنَّ المدَّ سيمحو آثارَ قدمي وستذهب الرِّيح بالزَّبد .

أمَّا البحر والشَّاطئ فيظلَّان إلى الأبد». سيمحو المدُّ آثار خطواتنا كما قال جبران، ومع هذا فمن غير المنطقيِّ أن ننشغل بتأمُّل الرمال وهي تلاحق بعضها داخل كرة من زجاج، أو نتسلَّى بمطاردة عقرب ساعة مُعَلَّقةٍ فوق جدار، لابدَّ من أثر نتركه قبل فوات الأوان وقبل فوات الرمال.

قد يظنُّ المرء قبل أن يزور سيدني أنَّ جميع بيوتها تطلُّ على البحر، بيوتٌ تشرب قهوتها الصّباحيَّة بصحبة الموج، وتتثاءبُ مع غروب الشَّمس. قد يتخيَّل المرء أنَّ جميع الشُّرفات مُتَّجهة صوبَ البحر كما مفروشات المنازل التي غالباً ما تكون متَّجهة نحو التلفاز داخل غرف الجلوس. وسيرى الزائر لسيدني أنَّ بيوتها لا تطلُّ جميعها على البحر لكنّه متأكِّدٌ أنَّ للسُّكنى أمام البحر طعم الحلاوة لا المُلوحة، وأنَّ منزلاً إلى جوار البحر ستتكفَّل الشَّمسُ بحمله نحو الدِّفء وسيقوده البحر نحو حُلُمٍ أزرق.

والأزرقُ حسب تصنيف الُّلغة الإنكليزيَّة مرادفٌ للحزن، فيما يقترن السَّواد بالحزن لدى العرب. والمتأمِّل للبحر والدَّهشة والحلم الأزرق يعتب على الإنكليزية ويعتقد أنَّ عليها أن تقدِّم اعتذارها يوماً من الأزرق، لأنَّها اعتبرته كئيباً حزيناً دون أن تتعمَّق فيه ودون أن تركُنَ سفنها على شواطئه، فتركته ينام باكياً.

في قارَّة تحيطها البِحَار على الإنسان أن يتعلَّم السِّباحة، أو أن يتحوَّل حبَّة رمل. ولأنَّ المياه المحيطة بقارَّة كبيرة شديدة البرودة لا الملوحة قد يكون من الصَّعب أن تغدوَ السِّباحةُ فعلاً روتينيَّاً، ولكن من السَّهل أن نغدوَ حبَّة رمل في ساعة من نحبّ وفي حياة من نحبّ، كي يمرَّ عمرُهُ ذهباً لا رمال.