اطياف رشيد

يتناول المسرح عبر تاريخه الطويل ثيمات انسانية وقيما اخلاقية استمدها من طبيعة التكوين السوسيوسياسي والتحولات الايديولوجية والمعرفية التي تسم مجتمعا ما بعينه وعصر محددا، والتغيرات التي تطرأ على هذا المجتمع سياسيا واقتصاديا وفكريا، وهي تؤثر بالضرورة في سلوكيات افراده وتوجهاتهم الفكرية والقيمية . من هنا تأتي اللمسة المسرحية في اقتطاف ثيماتها لتقدمها بما يكشف عن ملابسات هذه التحولات اولا ومحاولة فهم هذا التغير الذي عصف بالمزاج العام للمجتمع ، وخاصة اذا كان مجتمع ضربته موجات عنيفة من التغييرات سواء الديموغرافية او السوسيو سياسية_ثقافي كالمجتمع العراقي ، وحول كل ذلك وكل مافيه من غنى في جذب الكتاب والمخرجين المسرحيين لتناول قضاياه الجوهرية وخاصة تلك القضية الاساس وهي الانسان باعتباره مركز ومحور لكل موجات وتحولات التغيير، وما لحق به من ضرر نفسي وفكري في كل هذا العصف والعنف . ان (( حالات التغيير في اي مجتمع من المجتمعات عملية مستمرة ، لا توقف فيها ولا نكوص ، وربما اكتسبت بعض الحقائق الاجتماعية صبغة الخلود ولكنها امام مرأى التغيير لابد من ان تكتسب تشكيلتها وخصوصياتها المرتبطة باللحظة التاريخية التي تحتشد بها حالة التغير..وهذا ما دفع المسرحيين الى التوجه نحو التركيز على هذه التغيرات في المجتمع وجعله المادة الخام لموضوعاتهم )) *1  . فكيف اذن يستطيع المؤلف والمخرج اقتناص لحظة التغيير تلك دون الانزلاق في المباشرة والخطابية ؟ هل بالامكان ان يقدم عرضا مسرحيا دون اسفاف ؟

المسرح مع انه فعل جمالي ومعرفي فهو حاضنة لتفكيك الانساق التي تحاول التجذر كمفاهيم جديدة لقلب المفاهيم الحقيقة ، تفكيك واعي يتمثل متغيرات العصر وروح الناس. وفي تتبعنا لمسيرة المخرج كاظم نصار الاخراجية نجد انه يميل الى ما يسمى بالمسرح السياسي الذي بدأه بالتسعينيات واستمر فيه حتى بعد 2003 وهو يمثل منهجا وخطا اخراجيا متفردا افاد كثيرا من المتغيرات التي عصفت بالواقع العراقي في تاريخه الحافل بالصراعات السياسية والفكرية والدينية والعقائدية . ويقول المخرج كاظم نصار عن مشروعه هذا (( منذ عام 2003ونحن نتطلع لفتح ملفات لم نكن نجرؤ على فتحها في الماضي مثل الديكتاتورية والعنف والهجرة والاقصاء السياسي وغيرها من ظواهر مجتمعية وسياسية لتقديمها في عروضنا وتقديم رؤية عنها وبعد زوال الرقيب ..مع الاخذ بالاعتبار تغير مزاج التلقي ومن هنا جاءت هذه العروض وفق اسلوب مختلف عما مضى وشخصيا اميل منذ سنوات الى مزاج الكوميديا السوداء في عروضي وباسلوب يقترب من الكابريه السياسي والذي هو ليس جديدا وانما تم العمل عليه سابقا عربيا مثل شوشو في لبنان ودريد لخام والماغوط وحجو في سوريا ويوسف العاني في العراق)).

وفي عرض خارج التغطية  يسرد لنا حكاية ما من عمق هذا الصراع لكنه يجتزأ ثيمة اساسية سوف تكون نواة الفعل الدرامي وهي تصور مدى ضعف هذه المثل او قوتها في مواجهة الشرور والظلام والحرائق . يركز على هذه المثل كونها الاساس في انهيار ودمار الروح الانسانية وسيادة الفساد ، انها روح الانسان المجروحة والمطعون بنقاءها حد النزف واحتقار كرامته ومثله التي بدا انها سوف تسير به الى الهاوية. فالمثل والقيم التي لابد ان تساند وتعزز من وجوده ودوره الفاعل في اكتناه سبل استشراف المستقبل المشرق وبما يدعم الاستمرار ،لكن هذه المثل هي ذاتها التي ساهمت في انهياره. لقد مزج المؤلف كريم شغيدل في هذا العمل خلطة فنية جمعت بين مضامين نص عالمي متمثله بحوارات مسرحية هاملت لشكسبير ونص بيدرمان ومشعلو الحرائق للكاتب ماكس فريش وبناء نسق درامي يتمثل كل جوانب الفكرة والموضوع .توليفة افادت من ثيمة الفساد والاطماع والقتل في هاملت  وهشاشة المثل في مواجهة مكر الباطل وخديعة الشر في مشعلو الحرائق. وقدمت كل هذا في بيئة هي مدرسة الافكار الاولى ومحطة التاثير في الاخر في التحفيز على التمرد واثارة التفكير العميق في الحياة وهو خشبة المسرح.ومن المسرح الى الحياة يتجسد انهيار القيم والمثل .وفي العادة تدفع العروض والنصوص المسرحية عموما نحو منطقة المثل والقيم العليا لانها المنجي من الانهيار الانساني والانهيار الفكري والمجتمعي ،ولكن هنا اصبحت هي عامل الضعف الذي يسير بالجميع نحو الهاوية . المثل والقيم الاخلاقية السامية الداعمة للانسان هي السبب وراء شقاءه وانهياره وانقلاب ثمن اتباعها الى هلاك وموت واجرام وذلك عندما دخل الغرباء الى حاضنة القيم/ المسرح عنوة . ورغم المخاوف تجاههم من قبل المخرج وزوجته الا انهم احسنوا اليهم حيث انه وحسب الشخصية ( لايمكن ان نخاف طوال الوقت ) وان نحسن النية تجاه الاخر (لنمد ايدينا لبعضنا ،فالامر يحتاج الى شيء من حسن النية والى شيء من المثل وبهذا ننعم جميعا بالطمأنينة والسلام)*2 ولان لابد لحسن النية ان تعود بالخير على فاعلها كما هو متوقع الا ان هنا المعادلة معكوسة وها هي حسن النية تتسبب بانهيار الجميع . وما هو سبيل للقوة والتآزر اصبح ثغرة يمر من خلالها الشر ويساء من خلالها للجميع بدأ من المسرح الى الحياة حيث تشتعل الحرائق ويقتل المؤلف في اشارة الى الارهاب الذي يحاصر الفكر،والاحتلال وضياع القيم التي اشارت اليها بداية العرض في استحالة استمرار الفساد والشر الذي مثله عدم اتمام مشهد تتويج الملكة /الباطل في مسرحية هاملت، التتويج الذي لم يتم محاولا قطع السبيل امام الفساد وتوليه السلطة ولكن بقيت هذه اللحظة كما لحظة اشعال الحرائق لحظة قلق وتهديد مستمر وان يد السلام والمثل التي مدها المخرج تحتاج الى الطرف الاخر ،الشريك الحقيقي والنظير للتكامل الانساني ، فمشعلو الحرائق على الابواب دوما .

مسرحية خارج التغطية قدمتها الفرقة القومية للتمثيل ومن اعداد الكاتب كريم شغيدل واخراج كاظم نصار وتمثيل كل من شهرزاد شاكر ومازن محمد مصطفى وصادق عباس واياد الطائي وحسين سلمان ، قدمت على خشبة المسرح الوطني عام 2009.. على الرغم من وجود بعض مناطق الضعف اخراجيا ووقفات وصمت غير مبرر في مناطق غير مبررة من جسد العرض وتكرار استخدام قطع الديكور وايضا كان العرض بحاجة الى قليل من ضغط الزمن لا الايقاع كاد ان ينفلت  في لحظات اساسية من بناء العرض ،لكن مسرحية خارج التغطية مسرحية متميزة  واضافة مهمة للمسرح العراقيوتستحق ان يعاد عرضها من اجل ان يعطى المتلقي والمتفرج العراقي فرصة لاكتشاف عوالمه الداخلية واعادة بناء جسوره مع الاخر على اساس من المثل والقيم المشتركة.

الهوامش

1_ احمد الماجد نص الخشبة  دراسات مسرحية

2 نص المسرحية