ترجمة:
عوض خيري عن «الغارديان»

خلال السنوات الأخيرة من القرن الـ20، أبعدت الحكومة الأسترالية العديد من أطفال السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس قسراً من منازلهم وعائلاتهم، لتضعهم في مؤسسات وأسر حاضنة، وهو ما أطلق عليه في ما بعد «الجيل المسروق». وكان الهدف من كل ذلك، هو صياغة «أستراليا بيضاء الهوية»، التي تعمل على استيعاب العناصر الأخرى. وسمحت السياسات التمييزية التي كانت سائدة طوال هذه السنوات، للحكومات الأسترالية المتعاقبة بنقل هؤلاء الأطفال قسراً، ودمجهم في عائلات ومؤسسات ليس لها علاقة بالسكان الأصليين، ولا بثقافتهم أو لغتهم أو معتقداتهم أو تراثهم. ولم يكن لهؤلاء الأطفال خلال الفترة التي مكثوا فيها هناك أي اتصال مع عائلاتهم. ودرجت الحكومة على سرقتهم من ذويهم في سنّ مبكرة للغاية، للعمل والعيش في منازل أسر بيضاء، لكي يتشربوا «الثقافة البيضاء».
قبل 10 سنوات، قدّم رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك، كيفن رود، اعتذاراً رسمياً إلى جميع السكان الأصليين الأستراليين عما حدث، وعلى الأخص للأجيال التي تعرضت للإبعاد عن أسرها، واعتذر عن سوء معاملة الحكومات السابقة، وأخطائها تجاه السكان الأصليين الأستراليين، و»الحزن العميق والمعاناة والخسارة التي كان سببها الإبعاد القسري لهؤلاء الأطفال».
خلال الفترة بين 1910 و1970 أبعدت السلطات الأسترالية نحو 100 ألف من الأطفال الأصليين عن أسرهم بالقوة، كان هؤلاء الأطفال معروفين باسم «الجيل المسروق»، ومعظمهم دون الخامسة من العمر، وتم اقتيادهم من أسرهم لأن الحكومة الأسترالية قررت أن عرقهم يفتقر إلى مستقبل قوي.
مغالطات جدلية
وكانت الحكومة تعتقد أن الأطفال سيكونون أفضل حالاً إذا تمت تربيتهم بين عائلات بيضاء. ويعتمد هذا المنطق إلى مغالطات جدلية، بأن السكان الأصليين معرضون لخطر أكبر بكثير – حتى اليوم – كإدمان الكحول ووفيات الأطفال والسلوك الإجرامي وإدمان المخدرات أكثر من الأستراليين الآخرين. وفي الواقع، يقل متوسط العمر المتوقع للسكان الأصليين بـ17 عاماً عن بقية سكان البلاد. ولم يقتصر الأمر فقط على مسؤولين متحمسين لفرض هذه السياسة، وإنما تمت صياغة العديد من قوانين الولايات والفيدرالية، وإقرارها بنية صريحة تتمثل في تعديل الوضع الديموغرافي لسكان أستراليا الأصليين، ومساعدة شبابهم على الاندماج في المجتمع. وكان القصد من ذلك هو التخلص من ثقافة السكان الأصليين.
استخدمت الحكومات مجموعة متنوعة من الوسائل الخادعة لانتزاع الأطفال الأصحاء من عائلاتهم. وتم أخذ بعض الأطفال ببساطة من منازلهم من قبل مسؤولين حكوميين. وكان الأطفال في سنّ مبكرة جداً، لا تجعلهم حتى يتذكروا عائلاتهم، لذلك يصدق الأطفال عندما يقال لهم إنهم أيتام. ولعل من أبرز الأساليب الخادعة التي اتبعتها السلطات هي أن إحدى الأمهات وقّعت على نموذج من أجل تطعيم روتيني لطفلها، وعندما سلمت طفلها للفحص، قيل لها إن طفلها مات، لكنه ظل على قيد الحياة وبصحة جيدة، ويقيم مع عائلة بيضاء. وتم نقل أطفال آخرين لتلقي العلاج إلى المستشفيات، ولم يرهم ذووهم مرة أخرى، واعتقدوا أيضاً أن أطفالهم قد ماتوا. وكان معظمهم يوضع مع عائلات حاضنة ثرية بيضاء، أو يتم نقلهم إلى دور الأيتام أو إلى البعثات التبشيرية.
وبمناسبة الذكرى السنوية الـ10 لـ«الاعتذار الوطني» رصدت المصورة الفوتوغرافية الأسترالية، إليثيا كيسي، مجموعة من الصور، التي تتحدث من خلالها نسوة من السكان الأصليين عن معاناتهن، أو معاناة أقربائهن، جراء تلك المعاملات الحكومية الجائرة.
وتستكشف هذه السلسلة التصويرية أثر اعتذار الحكومة الأسترالية في السكان الأصليين الأستراليين، سواء في الأجيال التي تعرّضت للإبعاد أو أولئك الذين تأثروا بشكل غير مباشر بسياسات الماضي. وتحكي الصور قصة نساء عانين الظلم التاريخي، ولكنهن عملن من أجل التعافي. والصور هي مزيج من المناظر الطبيعية والصور الشخصية – المناظر الطبيعية تتحدث عن الذاكرة والتعلق بالمكان، بينما تستكشف الصورة الشخصية الهوية والحزن والخسارة والمصالحة.
وتعكس القصص التي روتها بعض النسوة عن تلك الحقبة حقيقة أن معظم السكان الأصليين الأستراليين تأثروا بالسياسات العنصرية في الماضي بطريقة ما، لاسيما الإبعاد القسري للأطفال، وكما قالت جاسمين، وهي إحدى الشابات اللواتي شاركن في المشروع: «بسبب ما حدث، أخشى أن يحدث الشيء نفسه لطفلي». ليس لدى جاسمين أي سبب للخوف من أن يؤخذ طفلها منها، ولكنها لاتزال متأثرة بألم الماضي الذي عاشه أهلها، هذا الخوف تسرب في لا وعي كثير من الأجيال الشابة.
الفتاة الأسترالية، التي تنتمي إلى السكان الأصليين، أماندا فوثرينغهام، تقصّ بعض مرارات الماضي لقوميتها، وتأثيراته في حاضرهم، وتطلعاتهم للمستقبل:
حكاية طفلة مسروقة
«مر 50 عاماً على سرقة والدتي التي كانت تبلغ آنذاك ثلاثة أعوام من العمر، من أحضان والدتها في بلدة بورك، الواقعة شمال غرب نيو ساوث ويلز. لقد مرت كل هذه المدة، لكن تلك اللحظة لايزال يتردد صداها على مدى العقود، وأعيش مع عواقبها كل يوم. هناك الكثير من قصص أناس مثلي – أبناء الأبناء المسروقين – ولكن تلك القصص لم تر النور حتى اليوم. لكن دعني أقصّ عليك جزءاً يسيراً منها، وأخبرك كيف أن سرقة والدتي من والدتها كل تلك السنين قد أبعدتني تماماً عن ثقافتي وعائلتي ولغتي وتاريخي».
أمي نسيت كيف تحبني
«لقد فاتني الكثير خلال حياتي بما في ذلك حقي في أم أتعلم منها كيف أحب. عندما سرقت الحكومة والدتي، انفصلت هي عن أشقائها وشقيقاتها الـ11، الذين تعرضوا هم أيضاً للسرقة، وأُرسلوا إلى دور حضانة في جميع أنحاء البلاد. لم تكن أمي قد حُرمت علاقاتها بأشقائها فحسب، بل إنها لم تنعم أبداً بحنان والدتها. عندما حاولت أن تتعقب أمها البيولوجية، اكتشفت أنها قتلت قبل وقت، بعد إجبارها على الانفصال منها. ونتيجة للصدمة الهائلة التي مرت بها والدتي، وحرمانها حنان أمها الحاضنة، لم تعرف كيف تحبني أو تحب أختي بشكل صحيح».
لقاء عائلتي للمرة الأولى
«كان عمري تسع سنوات عندما اتصلت بنا إحدى أخوات أمي، والتي تتبعت أيضاً بعض أشقائها الآخرين. كان أمامنا أسبوع بأكمله للمّ شمل الأسرة، حيث تعرفت إلى عماتي وأعمامي وجداتي وأجدادي. شعرت بنفسي أكثر رسوخاً على هذه التربة الحمراء من بلدتي، أكثر من أي وقت مضى في حياتي. روحي تتوق للعودة إلى هذا المكان الذي كان تجول فيه أجدادي مرة واحدة. في العام الماضي تلقينا مكالمة هاتفية أخرى مفاجئة من امرأة تقول إنها ابنة أحد أشقائي الذين فرقت بينهم الحياة منذ زمن طويل. ومن خلال هذه المكالمة الهاتفية، حصلت على أربعة أبناء عمومة جدد في غضون أسبوع. إنه لفخر لي أن أرى أناساً يحملون الدماء نفسها التي تجري في عروقي، والأجداد نفسهم».
ضاعت ثقافتي
«نتيجة للسرقة، فقدت أمي وأشقاؤها ارتباطهم بالبلدة، وهذا يعني أن أختي وابن أخي وأبناء عمومتي وأطفالهم قد حرموا هذا الارتباط أيضاً. عندما كبرت عرفت أنني من السكان الأصليين. أتذكر أن معلمة في المدرسة طلبت مني الصعود على خشبة المسرح في يوم من الأيام، لأنها اعتقدت أنني أعرف عن قومية دوغيريدو، لكن في الحقيقة أنني لم أكن أعرف شيئاً عن ثقافتي أو لغتي أو روحانيتي. الأسرة التي نشأت بينها لا تشبهني، لون بشرتي وتقاطيع وجهي مختلفة عنهم بشكل ملحوظ، ولهذا أثر عميق في إحساسي بالانتماء. شعرت كأنني منبوذة ولا يتناسب معي هذا المكان. مرت 10 سنوات منذ أن قدم كيفن رود الاعتذار التاريخي للأجيال المسروقة. إنها لحظة تفخر بها أستراليا بحق، لأنها أظهرت قدرة البلاد على مواجهة الحقائق القبيحة في الماضي، والمضي قدماً. من المهم المضي قدماً، نعم. لكن هناك من يعتقد أنه يجب علينا التحرك، وأن نتجاوز الماضي، ولكن من الصعب فهم الحقائق الصادمة التي حدثت في الماضي».
خطاب كيفن بشأن الاعتذار
إننا، اليوم، نكرّم الشعوب الأصلية في هذه الأرض، أقدم ثقافات مستمرة في تاريخ البشرية. نتمعن اليوم في سوء معاملتهم في الماضي. وبشكل خاص في إساءة معاملة الأجيال التي تعرضت للإبعاد عن أهلها، نتمعن اليوم في هذا الفصل الملتبس من تاريخ أمتنا. لقد حان الوقت الآن للأمة لتقلب صفحة جديدة في تاريخ أستراليا، من خلال تصحيح أخطاء الماضي، وبالتالي المضي قدماً بثقة نحو المستقبل. إننا نعتذر عن قوانين وسياسات البرلمانات المتعاقبة، والحكومات التي تسببت في أحزان عميقة، ومعاناة وخسارة لهؤلاء الأستراليين. ونعتذر على وجه الخصوص عن إبعاد أطفال السكان الأصليين، وسكان جزر مضيق توريس، عن أسرهم ومجتمعاتهم المحلية وقراهم.
نعتذر للألم والمعاناة والأذى الذي سببناه لهذه الأجيال المبعدة، نعتذر لأجدادهم وعائلاتهم التي تركوها وراءهم، نعتذر إلى الأمهات والآباء، والأخوة والأخوات، لتفريقنا العائلات والمجتمعات، نعتذر للإهانة والإذلال اللذين لحقا بشعب فخور بنفسه ذي ثقافة أصيلة.
نحن برلمان أستراليا نطلب بكل احترام من الشعب أن يتقبل هذا الاعتذار بالروح التي تجعل منه جزءاً من شفاء الأمة. نتخذ اليوم هذه الخطوة الأولى إقراراً بالماضي وإثباتاً لمستقبل يحتضن جميع الأستراليين. مستقبل يقرر فيه هذا البرلمان أن ظلم الماضي يجب ألا يحدث أبداً.
مستقبل نسخّر فيه تصميم جميع الأستراليين والسكان الأصليين وغير الأصليين لسد الفجوة في العمر المتوقع، والإنجاز التعليمي، والفرص الاقتصادية. مستقبل نتبنى فيه إمكانية حلول جديدة لمشكلات دائمة فشلت في حلها المناهج القديمة. مستقبل قائم على الاحترام المتبادل، والعزيمة المتبادلة، والمسؤولية المتبادلة. مستقبل يتمتع فيه جميع الأستراليين، بغض النظر عن أصولهم، بأنهم شركاء متساوون حقاً، متكافئون في الفرص، ولهم حصة متساوية في صياغة الفصل التالي من تاريخ هذا البلد العظيم، أستراليا. ترجمة: ع-خ عن «ذي أستريليان»
تعليقات مروّعة
«لم أفهم أبداً لماذا بدأ الناس في المدرسة يقولون أشياء مروّعة عني وعن أمي» ـ جينيفر مويلان
«لم يغير الاعتذار كثيراً، والطريقة الوحيدة لإحداث تغيير حقيقي هي من خلال التعليم» – باتريسيا إليس
«كانت أمي وجدتي وأختي جميعاً من الأجيال التي تعرضت للإبعاد، أفتقد وجودهن وهمسهن لي بالنصيحة، والذي يوجهني بلطف على الطريق الصحيح» – كارولين جلاس باتسون
«التاريخ لديه طريقة لتكرار نفسه.. كنت أعرف أشخاصاً آخرين تعرضوا للإبعاد، الآن أخشى أن يحدث الشيء نفسه لطفلي» ـ ياسمين أتكينسون، هابي
«ظللت أسيرة عالمين: كنت أحلم بيوم نصبح فيه، بوصفنا أول شعب على هذه الأرض، عالماً واحداً، ولن يحدث هذا إلا عندما تعترف هذه الدولة بشكل كامل بتاريخها الصادم، وتأثيرها في الشعوب الأولى، ورغبتها في اتخاذ إجراء حقيقي. ويعتبر تقديم الاعتذار أولى هذه الفرص» ـ إليزا بروس.
«ولدت في منطقة بيري، وفي ذلك الوقت لم يكن مسموحاً للنساء من السكان الأصليين الدخول إلى المستشفى، لذلك ولدتني أمي في ظل خلف المستشفى» ـ
خلال الفترة بين 1910 و1970 أبعدت السلطات
الأسترالية نحو 100 ألف من الأطفال الأصليين
عن أسرهم بالقوة، كان هؤلاء الأطفال
معروفين باسم «الجيل المسروق»، ومعظمهم
دون الخامسة من العمر، وتم اقتيادهم من أسرهم
لأن الحكومة الأسترالية قررت أن عرقهم يفتقر
إلى مستقبل قوي.