مع ظهور نتائج الانتخابات اردت ان اعيد حساباتي مع الوطن الذي اعشق واسترجع بعض المحطات الهامة ذات الدلالات السياسية والتي اوصلت لبنان الى ما هو عليه الآن.
في اواخر سنة 1975، وبعد اشهر معدودة من انطلاق الحرب اللبنانية، اصدر الصحفي الفرنسي روجيه اوك كتاباً تحت عنوان «موت لبنان» يبشّر فيه الكاتب اللبنانيين والعالم ان لبنان يحتضر، وهو في طريقه الى الزوال…
وفي كانون الاول 2014 نشرت صحيفة «الفيغارو» الفرنسية مقالاً حول اللبنانيين الذين يرفضون الموت والاستسلام لفلسفة القتل والدمار، وهم بالتالي مصممون على الحياة ومواجهة اسباب وعلة الحرب وانعكاساتها اللاحقة.
فما هي التبدلات التي حصلت ميدانياً واجتماعياً وسياسياً منذ نيسان 1975، وهل نحن قادرون على إقامة دولة عصرية بعد كل التضحيات التي قدمها اللبنانيون؟؟
اصبح من المتعارف عليه ان معظم الثورات والحروب غالباً ما تنتج واقعاً جديداً داخل البلد وتحدث تبدلات في النظام السياسي والتركيبة الاجتماعية داخل البلد الذي تقع فيه.
هكذا حدث مع الثورة الفرنسية التي ادت الى الاطاحة بالملكية وفرضت نظاماً جمهورياً ديمقراطياً، وفصلت الدين عن الدولة وادخلت الفكر العلماني الى الادارة السياسية والنظام التربوي.
كذلك فعلت الثورة الشيوعية التي اطاحت بالقياصرة وجرى اقناع الطبقة العاملة وعامة الشعب انهم اصحاب الارض والقرار، وأُلغيت الملكية الخاصة وفرض الفكر الشيوعي الملحد على عامة الناس «وكاد الله يموت في الاتحاد السوفياتي». واصبح دستور البلاد مبنياً على هذه المبادئ المادية المطلقة وما يتشعّب عنها من طروحات عقائدية.
الحرب العالمية الاولى جاءت لتدعم النظام الشيوعي والثانية كرّست هيمنة الفكر الصهيوني وانشأت دولة اسرائيل.
النزاعات العربية الاسرائيلة وما نتج عنها من حروب باءت جميعها بالفشل من جهة الدول العربية، وفتحت المجال لاسرائيل لكي تستولي على اراض جديدة سلبتها عنوة من مصر والاردن وفلسطين وسوريا وبعض القرى الحدودية اللبنانية.
الحرب اللبنانية التي انطلقت شرارتها في 13 نيسان 1975 ولعبت فيها سوريا دور المحرك لها. سعى الشرق والغرب معاً على معالجة كل الاحباطات والفشل التي أصيبت بها نتيجة للتلكؤ في معالجة آثار «النكبة»
لذا قرر هؤلاء معاً تحويل لبنان الى بلد بديل لفلسطين، وتغيير النظام الطائفي التعددي، شبه الديمقراطي وارضاء الاغلبية المسلمة على حساب المسيحيين. وهذا ما يفسر دعوة الولايات المتحدة مسيحيي لبنان آنذاك الى الهجرة النهائية الى اوروبا واميركا، وكندا واستراليا…
لكن اثبت اللبنانيون ان وطنهم الصغير هو «اكبر من ان يبتلع واصغر من ان يقسّم…» وان لبنان رغم التناقض في مكوناته البشرية والدينية لا يزال رسالة بحد ذاته، يرفض كل المؤامرات التي تسعى الى «موته» وتذويبه في محيطه العربي او وضعه تحت الهيمنة الاسرائيلية.
اذكر جيداً عند اندلاع الحرب العراقية الايرانية في 22 ايلول 1980 قامت المذيعة ماجدة عبود صعب في الـ SBS باستطلاع آراء بعض الشخصيات العربية حول خلفيات هذه الحرب. وشاءت الظروف ان تتصل السيدة ماجدة عبود بي، فأوجزت ما يجري على الشكل التالي: ان لبنان هو بوابة الشرق الاوسط من الغرب والعراق مفتاحه من الشرق. لبنان يمثل الانفتاح والديمقراطية والتعددية والحرية والفكر المنتج، والعراق يمثل القدرة المالية والتكنولوجيا العسكرية والقدرة على تشكيل خطر مستقبلي على دولة اسرائيل. وان ما يجري الآن هو دمار الفكر اللبناني والصيغة النقيضة لاسرائيل وتدمير القدرة العسكرية والثروة العراقية .. انها مؤامرة خطيرة على الشرق الاوسط بكامله ومن بوابتيه.
اردت ان اذكر وجهة النظر هذه منذ سنة 1980 لأقول اننا ربطنا مصير لبنان الذي اراده العميد ريمون اده «محايداً» بمصير المنطقة بأسرها وبالنزاع العربي الاسرائيلي.. وما انخراط حزب الله بالقتال على الساحة السورية وعلى ارض اليمن والعراق سوى دليل عملي على هذا الارتباط، وهذا ليس بالجديد. فكلما حبلت الاوضاع في احدى العواصم العربية، تولد الازمات في بيروت والمناطق اللبنانية. وعند اي استحقاق لبناني داخلي، من تأليف حكومة واختيار رئيس للبلد او اختيار موظفي الدرجة الاولى، اصبح من تقاليدنا المألوفة الاصغاء الى املاءات الخارج واطاعتها لمعالجة اشكاليات الداخل. لهذا تشهد الساحة السياسية في لبنان سلسلة من التعطيلات الناتجة عن تضارب المصالح الاقليمية التي تنعكس في عملية التوتر الداخلي وشلّ الحركة السياسية في البلاد…
وما جرى خلال السنوات الاخيرة هو دليل قاطع على حالة تعطيل البلاد ارادياً. وعندما اصف هذا الواقع فلا ادعي ان الزعامات اللبنانية هي مطيعة ومتناغمة مع الخارج. فالحرب اللبنانية لم تتمكن من ابدال هذه الزعامات، بل كرست وجودها بشكل ثابت بالإضافة إلى ظهور طبقة جديدة من اثرياء الحرب، استفاد البعض من السلاح للاثراء ، ومن الاثراء لاكتساب مراكز سياسية، والانتخابات الأخيرة لم تتمكن من تغيير هذا الواقع.
اللافت في لبنان، هو اختصار االزعامات للطوائف والمذاهب وتعميق النزاعات الطائفية والمذهبية، حفاظاً على المواقع والمكاسب وارضاءً للاملاءات الخارجية.. وهذا ما بدا خلال الحملات الانتخابية الأخيرة، ومع تعطيل الدولة المركزية جرى تكريس الزعامات والميليشيات. واصبحت كل المناطق اللبنانية محميات وامارات تذكر بالحقبة العثمانية وانهيار الدولة واعادة تحديد مفهوم الاستقلال. فالاحتلال السوري الذي لا يعترف بالكيان اللبناني اعتقد سادته ان الوقت ملائم لاعادة ضم البلد واقامة سوريا الكبرى، متناسين ان دخولهم الى لبنان كان مجرد حلقة استنزاف تسبق الانهيار الكبير الذي تواجهه سوريا الآن.
الزعامات اللبنانية لها «قرص في كل عرس» رحب معظمهم بالسوريين، وتعاون عدد كبير منهم مع القوات الاسرائيلية عند اجتياحها لبيروت امام اعين كل العرب. فاللبنانيون هُم سوريون مع السوري وايرانيون مع الايراني، ومصريون وسعوديون واميركيون و.. و… طالما تحفظ تحالفاتهم مواقعهم ومنافعهم ومستقبل ابنائهم. واقتصرت اهتماماتهم على ابتكار التبريرات لانقلابهم من تحالف الى آخر، ونقل البندقية من كتف إلى أخرى.. القلة الضئيلة منهم يحمل همَّ الدولة والقلق على الوطن. فهل يعقل ان نأمل باصلاح يصدر عمن اضعف وابطل وقضى على جميع مؤسسات الوطن او حولها لخدمة مصالحه والا فالتعطيل هو الحل..!!
اليوم البرلمان الجديد هو أمام اختيار لتكريس مفهوم الدولة على حساب المعطيات الأخرى.
الشعب اللبناني هو الضحية في معظم الحالات. يلومهم البعض لأنهم يعيدون انتخاب من استهان كرامتهم وعطل الوطن لمصالحه. لكن مهما فعل اللبنانيون، فالعلّة ليست فيهم، بل في النظام السياسي الذي جرى تفصيله على قياس الزعامات وبهدف حمايتها.
يختلف الزعماء على قانون الانتخابات عندما يهدد استمراريتهم. ويختلفون على الوزارات لأنها مصدر نعمتهم واثرائم غير الشرعي.
مسكين هذا اللبنان. لقد حجّموه على قياساتهم وتقاسموا خيراته فيما بينهم. فلا مساءلة لئلا تهان كرامات الطوائف والمذاهب، ولا اخلاقيات في العمل السياسي بعدما اقترن العمل السياسي بالفساد وسرقة خيرات الوطن والاثراء غير المشروع… ولا مَن يسأل…
الأخطر من كل ذلك هو قدرة اللبنانيين على التأقلم والتكيّف والقبول بالواقع رغم كل مساوئه.. «كل عمرو لبنان هيك». ويتناسى هؤلاء ان مَن لا يتقدم يتراجع وتتوقف لديه دورة الحياة والتقدم.
تنفس اللبنانيون الصعداء مع انتخاب رئيس جديد للبلاد. وهم يحبسون الآن أنفاسهم مع ولادة برلمان جديد بعد 9 سنوات من التمديد والتجديد، لكن للاسف الشديد هل بمقدور هذا البرلمان ووجود رئيس قوي اصلاح الفساد الذي اصبح تراثاً ثقافياً وجزءاًَ من صميم التركيبة السياسية ومكوناً اساسياً من شخصية المواطن اللبناني..!!
وهل لبنان «الوطن الصغير» الذي ربطه أبناؤه بمنطقة مضطربة، قد تكون مقبلة على المزيد من التفجيرات غير المحسوبة، هو قادر على استعادة قدراته والرغبة في الحياة، أن يعيد بناء الوطن على أسس جديدة.
ملفات عديدة تواجه النظام اليوم، رئيساً وحكومة وبرلمان، فالنزاعات المحيطة به لا تزال هي هي، والمشاكل الداخلية لا تزال على حالها، فاللبنانيون منقسمون على الرؤية والسلاح والكهرباء ومعالجة أزمة اللاجئين، والديون والأزمات الاقتصادية والبطالة وعلاقتهم بالسعودية في مواجهة إيران وتحديد علاقتهم بترامب في مواجهة بوتين… عناوين كبيرة تواجه تكتلات تسعى للاستئثار بالسلطة والتحكم بالقرارات، على حساب الديموقراطية والمشاركة المسؤولة.
مع انطلاق البرلمان الجديد نأمل أن يحمل العهد سلاماً وازهاراً وبعض الكرامة للبنان ودول الشرق الاوسط.
فلبنان لا يستطيع البقاء على قيد الحياة بشعبه ان لم يقتنع الجميع ان لبنان هو الأول والاخير، وأنه وطن نهائي للجميع وهو بعد الله، البداية والنهاية وهو بيت المقدس في حياتهم واحلامهم وآمالهم انه أرض «وقف» يجب عدم المساس به…
كل عهد ولبنان بخير
مصير لبنان بيد أبنائه
Related Posts
وباء كورونا والحرب العالمية الثالثة