عبير حسن العاني- سدني
بينما كنتُ في طريقي الى مدينة لاكمبا الواقعة في وسط سدني، والتي تسكنها الغالبية من المسلمين العرب، حاولتُ تهيئة بعض الأسئلة لوفد المفوضية العليا الذي يتواجد هناك، لكنّ سائق السيارة التي اسـتأجرتها كان يمنعني من ذلك حيث ظلَّ يتكلم دون توقف وكأنه كان يهذي ((صحيحٌ أننا غادرنا العراق منذ أربعين سنة لكننا نحلم باليوم الذي نعود إليه، استراليا منحتنا الأمان ولم تقصّر مع أبنائنا لكننا نحن الكبار لا يمكن أن نعيش بسعادة أو حتى براحة إلاّ في وطننا.. والله لا يوجد أجمل من العراق، وذكرياتنا في بغداد هي أجمل ما مرَّ بحياتنا.. ولكن ماذا عسانا أن نقول…))..
ذلك الرجل الآشوري البسيط كان يتأفف بعد كلَّ جملةٍ، ويردد مع كاظم الساهرالذي كان صوته يملأ السيارة بعذوبة الحنين «سلامي على اللي حاضر معانا.. سلامي على اللي خالي مكانه»..
وصلنا بعد أربعين دقيقة الى مقر المفوضية، شكرتُ ذلك العراقي الأصيل، ودخلتُ دون أن أفكر بما سأطرحه! كانت حسرات ذلك الرجل البسيط ما زالت تدمي مسامع قلبي.
استقبلني موظف المفوضية بحرارة وأدخلني الى غرفة السيد مدير المكتب، وذهب ليعلمه.
وبعد دقائق قليلة، دخل السيد أحمد أياد محمود مدير مكتب انتخابات العراق في استراليا، وكل ما به ينطق بالترحاب والكرم العراقي.. ولا أعرف لماذا تراءى لي وجه أبي الراحل وجارتي الطيبة وصاحب المخبز المجاور لبيتنا.. بينما هو منهمك باستدعاء السكرتيرة وسؤالي عمّا أود أن أتناوله من مشروب.
بادرته وهو العائد من ولاية فكتوريا الاسترالية قبل ساعات:
– حمدا لله على سلامتكم..
– الله يسلمك..
كانت ملصقات المفوضية تملأ جدران المكان.. فوجدتها فرصة مناسبة للتساؤل:
– لنبدأ من التسمية.. نعلم ما تعنيه المفوضية ولكن لماذا «العليا»؟ ألا من سلطة تحسابها ان اخطأت؟
أجاب في الحال:
– ليس من حق السلطات الثلاث التدخل بعمل المفوضية، لكنها تخضع لرقابة مجلس النواب الذي يمكنه التصويت على قرار معين في حال ارتكبت المفوضية خطأ ما.
– وكلمة المستقلة؟ هذه المفردة نحتاج لخوض نقاش حولها، حيث يقال أن كل مفوّض عيّن فيها يمثل حزبا أو كيانا أو..
قاطعني السيد أحمد بينما تغيرت ملامحه فجأة وهو يقول بشيء من الغضب:
– لندع هذا الأمر الآن.. ولن أتكلم به أبدا، وبعد أن تنتهي الانتخابات بسلام نتحدث به كما تشائين. ما أود فقط التأكيد عليه، هو أن المفوضية حيادية تماما وتقف على مسافة واحدة من كل القوائم، والعملية الانتخابية هي ممارسة ديمقراطية بحتة، وفي حال حصول أي خرق ? لا سامح الله- فمن حق أي مراقب أو حتى مواطن عادي تقديم شكوى من خلال تقديم استمارة تحمل الرقم (110) وسينظر فيها من قبل القسم القانوني، وتصنيفها إلى صفراء أو خضراء أو حمراء، وفي حال كونها حمراء سيتم فتح تحقيق، وستنشر كافة نتائج التحقيقات في الصحف العراقية الرسمية.
حاولت أن أغيّر مجرى الحديث، بعد أن رأيت اصراره على عدم الرد:
– حدثني أكثر عن الاستعدادات، والتحضيرات، والمعوقات إن وجدت.
– نقوم حاليا بتهيئة مراكز الانتخاب التسعة وهي كما يلي: ثلاثة في سدني، واثنان في ولاية فكتوريا، وواحد في ولاية أديلايد، وآخر في ولاية غرب استراليا، بالاضافة الى مركز في ولاية كوينزلاند، وآخرها في نيوزلندا، وسنعلن عناوينها يوم السبت القادم في الندوة التي ستقيمها المفوضية والتي سيُدعى اليها الأحزاب السياسية والمؤسسات ورجال الأديان كافة ووجهاء الجالية، وسيكون للجميع الحق في التحدث والاستفسار عن أي شيء. أما بالنسبة للمعوقات فالحمدلله تم تذليلها رغم ضيق الوقت الذي جعلنا نتحرك بسرعة قصوى، حيث أننا لم نتمكن من القدوم الى استراليا مبكرا، وهنا لا بد من أن أشير الى جهود السفارة العراقية في كانبيرا التي قامت بتقديم التسهيلات الضرورية لنا للحصول على الفيزا خلال ثلاثة أيام فقط.
كان حديثنا ينقطع بين حينٍ وحين، كلما دخل أحدٌ ليسلّم علينا، ورغم انزعاجنا من ذلك الاّ ان السيد أحمد كان يبتسم ويعلن معتذرا بلباقة وكياسة:
– لقد حرصت أن أترك بابي مفتوحا دائما، وللأسف البعض لا يتفهم انشغالي بأمور مهمة كلقائي معك الآن، ولكن الأمر لا يتعلق بي.
– وماذا عن آلية العمل؟ أهي ذاتها التي اعتدنا عليها؟
– نعم، بشكل عام لم يتغير شيء عدا أن العد والفرز سيكون عن طريق جهاز يسمى(سي كوز) بدل أن يكون يدويا، واعذريني لعدم شرح طريقه عمله للحفاظ على سلامة العملية ونزاهتها.
– وكيف تم اختيار موظفي الاقتراع ومدراء المحطات والمراكز؟ وهل فرضت عليكم اسماء معينة من قبل كتل سياسية او دينية؟
– حاولنا اختيار موظفين من كافة الديانات والطوائف والقوميات، وتم التركيز بشكل أكبر على من لديه خبرة عملية في انتخابات سابقة، ولم يسمح أبدا لأي جهة بترشيح أية أسماء، وقد قابلت شخصياً جميع المتقدمين، واستغرق ذلك وقتا ليس بالقليل.
تحدثنا عن عملية تأسيس حزب ما، وما يتطلبه ذلك، وكيفية تسجيل الحزب في دائرة الأحزاب التابعة للمفوضية، وفوجئت بأن عدد الاحزاب المسجلة في العراق هي مئتنان وخمسة، تم تحالف بعضها مع البعض الآخر مؤخرا، وسألته:
– الا يوجد عدد محدد لا يمكن تجاوزه بالنسبة للاحزاب وللمرشحين؟
– لا.. من حق أي حزب مسجل الترشيح، ولا يوجد أي تحديد لعدد المرشحين!
– وما هي توقعاتك لنسب المشاركة هذا العام؟
– أتوقع بالرغم من كل ما يقال عن عزوف الكثير عن المشاركة، أن تكون النسبة كبيرة تفوق ما كانت عليه عام 2014.
– هل أنت متفائل بمستقبل العراق القريب والبعيد؟
أجابني قبل أن يسمع سؤالي كاملا بصوت هاديء وهو ينظر الى طاولته المرتبة:
– متفائل جدا، وأنا دائما أقول.. كعراقي أعيش في العراق، أعتبر أي خطوة «بسيطة» نتقدم بها الى الأمام، رغم شبح الإرهاب وآفة الفساد هي إنجازٌ نعدّ من خلاله شيئا ايجابيا لأبنائنا.
ودّعته وكلانا يحلم بتوديع كل سيء حاول العبث بحاضرنا وتحطيم أملنا بغدٍ مشرق، يصرّ أبناؤه الشرفاء أن يمدوا أيديهم لبعضهم البعض كي يصبح العراق بنيانا مرصوصا لا يتكمن منه فاسد، ولا يخترقه لص أو مجرم.
خرجتُ الى الشارع الهاديء النظيف، وأنا أتخيل أن أرى نفس معالمهِ يوماً في زقاق بيتنا الذي تفوح من نافذته رائحة الهيل، وعبق الماضي الجميل وذكريات جلسة عائلية حميمة وحكايات بسيطة عن الأهل والجار والأماني والوطن.