يضع الشريط الوثائقي «يهود الجزائر» الوعي الوطني والقومي أمام تحديات المرحلة، حيث لم أستطع متابعته بمعزل عما يحدث في الساحة العربية من محاولات تهويد القدس وصفقة القرن وهرولة للتطبيع، ولعل التداعي الذهني يجد أساسه في القراءة الثقافية والأنثروبوتاريخية التي تضع الوعي أمام أسئلة القهر التاريخي ومنها: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ حتى إن كنا أحيانا من غير المتحمسين لنظرية المؤامرة.
ليس التاريخ وعيا عفويا بالمعيش، أي بسيرورة الذات في انهماكها اليومي لتشكيل بصمة الحضور، التاريخ أكبر من هذا الفهم السطحي، إنه الإدراك الواعي لتراكم الخبرات والوقائع والتجارب القابلة للتعيين والتدوين والتحليل، وحسب هذه الرؤية فإن قراءة المسار الحدثي ليست ترفا يتشكل داخل أقبية الوعي السطحي، ولكنها مدى أبعد يتأسس حسب توجهات الذات وقناعاتها بديمومة الأثر الإنساني وإمكانية انبثاقه غير المنتظر خلال المحفل الوجودي المستمر.
اللاتحديد الهوياتي/ «اليهودي اللايهودي»:
لم تكن الالتفاتة الإعلامية لإحدى الفضائيات الجزائرية للتاريخ اليهودي في المنطقة عابرة، وفي اعتقادي أن منتجي الشريط الوثائقي «يهود الجزائر»، لم يكونوا ليغفلوا عما سيثيره الحدث من أسئلة وانتقادات «مؤسسة» مبنية على استفزازات الشرط التاريخي، الذي يضع مواضيع كهذه بين ذات متابعة تتطلع قوميا إلى فظاعة مسلك استعماري يهدف إلى استنبات تاريخ «مختلق»، وتاريخ قائم يستند إلى الأطروحة الجغرافية والوقائعية المدمغة بالتجربة التاريخية، وهذه الذات في كل هذا المسار إنما تمتحن جدوى الذاكرة والمخيال لإتمام مصداقية المرجعية، وتأكيد بداهة المبدأ الإنساني في الامتثال للمشروعية الدالة على قوة التاريخ ووحدة الجغرافيا.
إن متابعة الوثائقي تعيد الوعي بالذات إلى مفصله الانشطاري، الذي طرحته الذات اليهودية كسؤال هاجس على ذاتها، ومازال كتاب المفكر اليهودي إسحق دويتشر «اليهودي اللايهودي» يبعث في الوعي صعوبة تعيين اليهودي، «إن مجرد الحاجة إلى طرح سؤال: «من هو اليهودي»؟ يبعث في نفسي شعورا غريبا بأني على وشك أن أناقش أحد المواضيع المتداولة في عدد كبير من الروايات، من كافكا إلى نيجل دنيس: هويات مفقودة أو أناس يصعب تحديد هويتهم»، دويتشر كمفكر يهودي، يضع الموقف التاريخي أمام معضلة التحديد، التي يؤسس لها اليهودي ذاته لترميم فجوة الشتات، وتبرير السلوك الباحث عن هوية إحلالية تهود كل ما يقع في دائرتها، لتشكيل الوعي بكينونة تسمى «يهودية»، وهنا يقع الكسر المفهومي الذي حاول الوثائقي المذكور جبره بوعي أو بدونه، انطلاقا من خطأ الاعتقاد في ثبات الهوية القائمة أساسا على اللاثبات المؤسس على المظلومية (الدياسبورا والهولوكوست).
التاريخ كسرد روائي/
في مواجهة «الاختلاق»
يقدم الوثائقي شخصية اليهودي الوطنية انطلاقا من راوٍ مجهول الوجه، أي مجهول الهوية بضرورة الحال، يتحدث عن التاريخ اليهودي من موقعه كفاقد للهوية داخل مجتمع يشمله الانتماء إليه إلا إنه يفترض عدم قبوله به حاضرا.
في سيرورة الأحداث يتحول الراوي إلى «راوٍ عليم» يرسل مصادره على التاريخ الواقعي من موقع مظلوميته، وهو ما ينكشف حين يصرح: «واليوم تمنطيط أصبحت زاوية دينية يحفظ فيها القرآن»، فإذا أصبحت اليوم هكذا، فبمفهوم المخالفة، كانت في الماضي يهودية، وهو ما يجعل من نقاشنا حول «يهود الجزائر» أو تاريخهم بالأحرى، يتجاوز السجال السطحي حول الرفض أو القبول، التعايش أو التنافر، إسرائيل أو الصهيونية، إلى تاريخية تتأسس في واقع الراهن القومي، احتلالية تحاول أن تمحي تاريخا معتبرا بكينونته المادية والمعنوية وتقيم تاريخا آخر لا يمتلك من القوة الحجاجية والوجودية ما يدافع به عن نفسه موضوعيا ودلاليا، وهو ما تنبه إليه الكاتب البريطاني «كيث وايتلام» في مؤلفه الذي يحمل عنوانه دلالة عميقة تتصل بالجذر الإحلالي في التفكير اليهودي: «اختلاق إسرائيل القديمة/إسكات التاريخ الفلسطيني»، حيث يؤكد «أن التاريخ اليهودي القديم هو مجرد جزء من التاريخ الكنعاني ـ أو الفلسطيني القديم»، وبالتالي مفهوم الـ»اختلاق» يحيل إلى التدافع بين الروايات التاريخية ومحاولة إزاحة بعضها بعضا عن طريق القوة التي تكتسبها من خلال تدفق مسروداتها، وهو ما يشير إليه إدوارد سعيد نقلا عن أحد النقاد من أن، «الأمم ذاتها هي سرد روائي. والقدرة على سرد الروايات، أو إعاقة سرد روايات أخرى بديلة ومنعها من التشكل والظهور هي عامل مهم جدا بالنسبة للثقافة والإمبريالية، بل تشكل أحد أهم الارتباطات بينهما». لهذا يقوم الاختلاف حول الرؤية في تناول الموضوع، لا من حيث جذره المعلوماتي، ولكن من حيث الوعي القومي بالكينونة المغلوبة في مواجهة السردية الروائية، التي تساهم في ترميم فجوات الـ»اختلاق» التاريخي.
الثقافة والتاريخ/مفصل
السجال الوجودي:
الارتباط التاريخي بين اليهود والاستيلاء على التاريخ والأرض إنما أسست له الأدبيات التاريخية، فـمصطلح «المسألة اليهودية» شاع في الوعي، ومنه لا يمكن منع استعمال التسمية «يهود» في إطار القراءة المعرفية أو التاريخو ـ ثقافية، لأن مثلا ينسب اليوم الإرهاب للمسلمين، مع أن نسبة لا تكاد تذكر منهم هي التي تمارسه، والتقابل في الوعي العربي يهودي/فلسطيني، يقوم على الاستمرار في إهدار الحق العربي/الفلسطيني في الأرض المغتصبة، لذلك فمن الصعوبة بمكان أن يفك الارتباط وعيا بين يهود/احتلال، ولعل استدراك الموسيقي القسنطيني عزيزي محمد في الوثائقي المذكور حول طبيعة العلاقة بين اليهود والجزائريين على الأقل في منطقته وخلال الحقبة الاستعمارية، إن لم يكن ذاك هو الشائع، حيث وصف «التعايش» بينهم بـ»الذكي» بعد أن أثبت بأنه كانت هناك «حواجز أخلاقية»، ومنها الحساسية المفرطة الناتجة عن تداعيات القضية القومية وقانون كريميو 1870 الذي قبل به اليهود الجزائريون، وبالتالي خرج بهم من دائرة المستوى الثاني إلى مصاف المستوى الأول حيث أصبحوا فرنسيين، وما زال الوعي الوطني الجزائري يحتفظ بقضية المغني اليهودي الجزائري مولدا والفرنسي جنسية، انريكو ماسياس الممنوع من الدخول إلى الجزائر، والذي غنى «لا أنا لم أنس» 1966، لأنه غنى «غادرت بلدي»، التحق بجنسيته المكتسبة غداة الاستقلال، وبالتالي يصبح نداء الروائي أمين الزاوي في الوثائقي بضرورة «مصالحة الجزائري مع تاريخه العريق الذي هو تاريخ متنوع»، وهذا انطلاقا من روايته «اليهودي الأخير في تمنطيط» التي كما وصفها بأنها «إعادة قراءة التاريخ»، يصبح نداءه مجروحا، باعتبار أن الجزء لا يَصْلُح أن يصير حُكْما على الكل، وأيضا المصالحة مع التاريخ، تطرح سؤال هوية التاريخ المطلوب للمصالحة؟ وهل يعتبر تاريخ الحاضر منقوص الهوية؟ وعند مفصل الهوية ينقدح وجه الشيخ عبد الكريم المغيلي التلمساني الذي هبط إلى الديار التواتية بصفـــــته فقيها وداعية، فواجهته مسألة الهيمنة اليهودية بتمنطيط، واختلافه مع الشيخين عبد الرحمن بن يحيى العصنوني وأبو محمد عبدالله الأسنوني، إنما كان اختلاف رؤيتين، إحداها قد تكون خبرت الخفايا، وأخرى غاب عنها ذلك، ولعل الفيصل في ذلك قد يفسره الغبن الذي وقع على أغلبية أهل المنطقة من خلال التحكم اليهودي في التجارة حسب بعض المصادر التاريخية، وأيضا تشييد المعبد الجديد، وهذا خلافا للشريعة التي لا تسمح سوى بترميم ما هو قائم من المعابد. ويبقى الإشكال مستعصيا لأن بنيته الأساسية ثقافو ـ تاريخية، ويبدو إنه لا يمكن أن يفهم إلا من خلالها.