تمّ يوم الأحد 18/03/2018 إطلاق مجموعة «بدر ? أفكار في زمن فيسبوك» للدكتور رغيد النحّاس، وهي مجموعة شعريّة، نثريّة، تصويريّة، باللغتين الإنكليزيّة والعربيّة. وفيما يلي النسخة العربيّة للكلمة التي ألقاها المؤلّف بالإنكليزيّة.
***
أتقدّم بخالص احترامي وإعجابي بشعبنا الأستراليّ الأصليّ وبالشعب الفلسطينيّ، وهو شعب آخر سُرقت أرضه، على صمودهما رغم الصدمات التي يتلقيانها باستمرار.

إحدى قطع المجموعة، «بلد»، ولدت من ألمي المتواصل لما يجري في سوريا والعالم خلال السنوات الماضية، وخصوصاً لما يحدث للقدس. أقول فيها:

أنا جثّة في قبر مفتوح،
لا سماء فوقها، ولا غربان تلوح?
هامدة!
مذْ باع النخّاسون للأنجاس شراييني،
وحوّلوا مجاري دمي
ليسقوا أرضهم.

…..
أتوّقف عن الكلام خشيّة
…..

أيّها السيّدات والسادة،

يسرّني الترحيب بكم جميعاً. بينكم أصدقاء ومؤازرون عبر سنين طويلة … بينكم أصدقاء حضروا من ملبورن خصّيصاً لهذه المناسبة. أخْجَلوا تواضعنا.

أشكر كلّ وسائل الإعلام التي تداولت الإعلان عن هذا الحفل، وأخصّ بامتناني الذي حضر اليوم.

أتقدّم بوافر امتناني للشاعرة والمستشارة الأدبيّة ليات كيربي، وللمختصّة بالتحرير وتدريس اللغة العربيّة رغدة النحّاس-الزين، والمربيّة الشاعرة الدكتورة لويز ويكلينغ، لما قدّمنه من ملاحظات. مع العلم أنّني وحدي أتحمّل النتائج.
أشكر لويز ويكلينغ على كلمتها التي أطلقت من خلالها هذه المجموعة.

أشكر بإخلاص، الكاتب والشاعر والموسيقي غسّان علم الدين على مشاركته بإلقاء كلمة باللغة العربيّة، وعلى تلحينه وغنائه لقطعة من مجموعتي، ووضعه وتقديمه لحناً استوحاه من قطعة أخرى من أعمالي.

لطيف أنْ تشاركنا الكاتبة أمان السيّد، القادمة حديثاً إلى أستراليا من سوريا، بإلقاء واحدة من قصائدها.

شكراً لمكتبة «غليبووكس» إتاحة المجال لنا في إقامة هذا الحفل في هذا الصرح المعتبر.

أمّا نجاة، زوجتي لاثنتين وأربعين سنة، أقول لها:

المجد للصباح حين
يبدأ بك.
المجد للنهار حين
يمضي محتضناً جلال بسمتك.
المجد للمساء حين
لا ينتهي الليل في حضورك.
المجد لحبّك
يضيء سمائي.

أصدقائي العزّاء،

قلّبتْ نساءٌ كثيرات صفحات كتابي،
لكنّك وحدك قرأتِها.
رأيتهنّ يتأمّلن الكتابة ويلامسنها،
وتساءلت لمَ كنتِ وحدَكِ التي
خاطَبَتها الكلمات.

قالت لي العصفورة
إنّك تجيدين
التنقيط فوق الحروف.

تقدير الأشياء حقّ قدرها هو مفتاح اكتمال الواقعة بين المعطي والمتلقّي. حين يُعبّر المتلقي عن تقديره، يصبح معطياً أيضاً. وهكذا تكتمل الحلقة!

القمر يعكس ضياء الشمس. ويجعلنا، بضيائه في الليالي الداكنة، نقدّر الضوء بصورة جماليّة. المتلقّي هنا يصبح المعطي بخاصّ صلاحيّاته.

هذه المجموعة تعكس مفهومي التكامليّ في الحياة. إنّها حول كلّيّة الأشياء. ليست هي حول الهلال أو نصف القمر اللذيْن أحبّهما كثيراً، بل حول البدر الذي أحبّه الأكثر.

لكنّي أحبّ مبادراتك:
تظهرين هلالاً أو نصف قمر حيناً
لتطمئنيني أنّك لا زلت هناك.
ومع أنّك في ذهني دوماً،
وتسكنين روحي،
سأنتظر اكتمالَك.
فأنا الذي يريد كلّك.

مجموعتي صرخة لاغتنام الفرص النادرة في الوقت المناسب، دعوة لينجح الحبّ، وتتثبّت العلاقات. غالباً ما تكون الفرص سانحة أمامنا، أو ضمن علاقات قائمة أصلاً، لكنّنا لا نقدّرها.

نعم، الأمر يتطلّب مشقّة كبيرة، خصوصاً أنّه يحتاج لمبادرة وعناء الطرفين. أولئك الذين يعرفونني يعلمون كم أحبّ التانغو. النتائج، على كلّ حال، يمكن الحصول عليها، ويمكن أنْ تكون مجدية جدّاً. تنعّمت شخصيّاً بإيجابيّات كهذه، ولهذا أقدّرها تماماً.

مجموعتي مبايعة للشريكة الصادقة التي تتفهّم قيمة هذه الفرص النادرة، والحاجة لعدم التفريط بها. أدّعي أنّ العلاقة بين اثنين هي مفتاح لعلاقات أكثر تركيباً، بما في ذلك بين الأمم.

علاقة الحبّ بين اثنين لا تتحدّد فقط بإطار جسديهما وعلاقتهما الجنسيّة. هذا ما قد يشغل معظم الناس، ويجعلهم يهملون حسّية الواقعة التي تثرى بعقلين حاملين لتراث عريق من التجارب والقدرة على تخطّي الجلد الذي يكسو جسديهما. وكذلك تخطّي التناسل البيولوجيّ. أحبّ أنْ أفكّر بـ»التناسل الفكري».

لننظر في القطعة التي تحمل عنوان «الرحلة»:

أنت وردة جوريّة?
طبقاتُ عطرٍ،
وخيوطُ ضوءٍ،
تُضرّج لونك.
وأنا مسافر أبحث
عن حبّي الأصيل.
أضيع في تضاريسك.
على قصير الدروب أمشي،
وعلى طويلها.
أجول في حارات واسعة،
وفي تلك التي تضيق.
أصعد الهضاب،
أنزل الوديان،
حتّى أقف مبهوراً
بكلّ ما حولي!
حين تفتحين الباب،
أرى قمري يضيء بدراً.

أتحدث هنا عن امرأة، لكنْ يمكنني بسهولة أنْ أستبدل العنوان بـ «دمشق» لتصبح القطعة عن مدينة ولادتي.

أكرّس نفسي للحب. المرأة التي تشاركني جسدها وروحها للحظة، تبقى جزءاً منّي إلى الأبد. المدينة التي شربتُ من مائها وأكلت من خبزها، تبقى أيضاً جزءاً أبديّاً من كينونتي. الصديق الذي يقف معي ليوم، يضمن حبّي للأبد. هذا ليس استحواذاً أو إخلاصاً أعمى. بطل مجموعتي رجل عِلْمٍ أيضاً. أحلامه رؤى لتثبيت الواقع. يوّظف عقله للحبّ ويستمتع بما ينتج من خفقات القلب. ليس هو بمخلص أو مسامح. لا يؤمن بالحظّ ولا بالمعجزات. لم يعد يتعاطى مع كثير من الناس لأسباب عديدة، لكنّه لم يتوقّف عن حبهم أبداً.

أنا رهين قلبي الدؤوب.
ينبضُ شرقاً، ينبضُ غرباً،
ينبضُ جنوباً، ينبض شمالاً،
لكنّه دائماً يستكين
بين ثدييك!

يَعْتَبِرُ الشاعر اللبناني-الأسترالي وديع سعادة، وهو واحد من طليعة شعراء اللغة العربيّة حاليّاً، أنّ «المكان» ليس مجرد مساحة جغرافيّة، بل فسحة داخليّة نأخذها معنا أينما ذهبنا.

الأهداف الجغرافيّة لضربات قلبي ليست بالضرورة بشراً. يمكن أنْ تكون أشجاراً في الشرق، جبالاً في الغرب، خلجاناً في الشمال، صحارى في الجنوب، لكنّ كلّ هذه التجارب الحياتيّة هي جزء ممّا آخذ معي لأستكين بين ثدييك، لأنّني أنشد التكامل في مفهوم الحياة. الحبّ طريقي إلى جسدكِ وإلى صخور الكواكب البعيدة.

يعتبر وديع سعادة الشعر «حلم تغيير العالم». مجموعتي قصّة خياليّة تعتمد على وقائع. وهي أيضاً واقع يعتمد على الخيال. أوافق مع وديع، وأعتبر أنّ رؤيته هي الحقيقة التي تجسّد العالم.

المرأة التي أخاطب هي قيمة، وليست مجرّد شخص. قيمة ترمز إلى الحياة، والرجال، والأطفال، والطبيعة، وكلّ الكون. ولهذا أريدها كاملة، على الرغم من الصعوبات.

آه يا بدر، يا حبيبتي!
تأتين مرتدية أربع عشرة طبقة،
تسترين عريك الوضّاء.
تخلعين قطعة في الليلة الأولى
لتظهري خيطاً من هلال.
كلّ ليلة تالية، تخلعين قطعة
لتزيدي شوقي وعذابي.
وحين أحسّ أنّني أكاد أصل،
أدرك أنّني لا أحظى بنصفك البعيد.
كلّما اقترب الموعد،
طال الزمن.
في الليلة الرابعة عشرة،
عندما تكشفين كلّ ضيائك السامي،
تبقين عصيّة!
تناديني، ولكنْ ليس قبل أنْ
تبدأي ارتداء أوّلى
طبقات ظلامك!

الموضوع الرئيس لهذه المجموعة هو قصّة حبّ مليئة بالمتناقضات، لا تختلف كثيراً عن متناقضات العلاقات الدوليّة. والقصّة تحدث في قرنين مختلفين، ومدينتين متباعدتين، في الوقت نفسه. تتداخل الأحداث باستخدام تقانات من البريد العادي إلى البريد الإلكتروني وفيسبوك.

أفضل ما يدلّنا على نوعيّة هذا التداخل هو التفكير وفق ما ذكرته الشاعرة والناشطة الأميركيّة روبين مورغان من أنّنا لا نعيش في دائرة من حيث التسلسل التاريخيّ، بل في لولب تبدو فيه الأحداث تتكرّر، ولكنْ تعود في بعدٍ أو على مستوى مختلف.
الفيزياء والهندسة الفراغيّة تثيران اهتمامي الدائم. وهنا استذكر بكلّ الحبّ ستيفن هوكينغ الذي دخل منذ أيّام عالم الكنظوم* الذي يحبّ، حيث سيكون هو البدر في الثقوب السوداء التي ساعدنا على فهمها.

الموضوع الذي أعتَمِدُه يتناول جمال تبادل الحبّ وقباحة تحطيمه. الحبيبة الميْتة والحيّة هما واحدة. الحبيبة الحقيقيّة والمتخيّلة هما واحدة.

يتطوّر الموضوع نتيجة لسلسلة من المراسلات الفكريّة، باستخدام «ماسنجر» والبريد الإلكترونيّ، بين صديق وصديقة. ثمّ، وبعد لقاء أثناء حفل عشاء، تُشحن المراسلات بعواطف فائقة الكهرباء. يصف لها حلمه، فتؤكّد له أنّها تحبّ الحلم. يلتقيان بعدها للحبّ.
هذا الموضوع هو النسخة الحديثة للقاء الحبّ الأصليّ قبل زمن فيسبوك. في تلك الأيّام استغرق الأمر سنة قبل لقاء الحبّ. أمّا في الزمن الحاضر، كانت المدّة ثلاثة أيّام فقط. في كلا الحاليْن، انتهى الحبّ بضربة قاضية واحدة وجّهتها الحبيبة يوم عيد الحبّ.

هذا تمرين لكم: حين تقرأون المجموعة، فكّروا في تجميع الأفكار لتأخذ شكل مسرحيّة. ولتكن كيفما شئتم، فهناك كثير من الأدلّة، إذا ما قرأتم بين السطور. وعلى كلّ حال تذكّروا «اللولب»!

كثير من القطع في هذه المجموعة تطوّر عن أعمال كتبتها منذ سنين عديدة. وغيرها ظهر أثناء تجميعي للعمل الحاليّ. وفي بعض الحالات استلهمت العمل من محادثات فكريّة مع بعض الأصدقاء، أو من تجاربهم التي أفضوا إليّ ببعض تفاصيلها.

قمت منذ سنتين برحلة إلى سويسرا ذكّرتني بأيّامي التي قضيتها بين الحين والآخر في لبنان، طفلاً ومراهقاً، وتلميذاً في واحدة من أجمل جامعات العالم. وهذا ما جعلني أكثر إصراراً على نشر هذه الأعمال.

حين كنت مراهقاً في دمشق، انشغلت بشكل محدود بالرسم الزيتيّ. لم أنس الشعور بتلك النشوة العارمة التي كانت تعتريني جراء تمرير الفرشاة على القماش لإنتاج الخطوط والألوان. أشعر أنّ المجموعة الحاليّة هي لوحة من لوحاتي الزيتيّة (هذا أهون عليّ من التفكير فيما إذا كانت شعراً أم نثراً). لوحة زيتيّة فيها الكثير من اللمسات الشخصيّة، والحقائق الدخيلة. ولهذا حين أرسلتها للطباعة توّلد عندي شعور بالنقص والخسارة. فجأة، خسرت بَدْري. شعرت أنّني «الميْت الحيّ». وهو ما عبّرت عنه في الخاتمة التي تشكّل آخر صفحتين من الكتاب، والتي أضفتها بعد أنْ تمّ طبع النسخة التجريبيّة.

وأخيراً حين كنت أوّدعها، وقفت على باب شقّتها كأنّها لوحة زيتيّة. بعد أنْ نزلتُ بضع درجات، عدتُ وامسكت بوجهها بين راحتيّ وقبّلت جبينها. شعرت أنّي أضع اللمسات الأخيرة على لوحة زيتيّة ما عادت بحوزتي. توجّهت بسيّارتي بعيداً عن منطقتها، حاملاً معي فيضاً من الذكريات.

اليوم أندب سقوط القمر
وليالٍ يهجرها السمر
وأجْهَر بموت العواطف
في دفتر جَمَعْنا أوراقَه
ومعاً كتبناها نقوشاً
ترسم وجه الحبّ.
…..
لا شكّ أنّ فيسبوك وسيلة تواصل اجتماعيّ هامّة. وغنيّ عن القول إنّه كأيّ تقانة يمكن أنْ يكون ضارّاً أو نافعاً، فالأمر بين أيدينا. وهنا لا أتحدّث عن، أو أرفض، النواحي المتعلّقة باللهو والمرح والفكاهة، ولكنّني مكتئب بسبب كثير ممّا أراه على الفيسبوك، حتّى على صفحات بعض المثقّفين الذين منهم أصدقاء وأحبّاء لي. لن أدخل الآن في هذا الحقل الملغوم سوى أن أقول إن آخر قطعة من المجموعة تحمل عنوان: «مغلق إلى إشعار آخر».
جفّ الشعور،
سكتَ الكلام،
نضبَ الحبر،
خلت الصفحات،
ضاعت الذكرى،
وانتحرت كلّ مواهبه!
قال لي صاحبي إنّه غداً
سيقلب آخر صفحة،
وسيغلق هذا الدكّان
المرميّ في زاوية مهجورة
من حارة «فيسبوك».
*الكنظوم: الكون المنظّم، وهو مصطلح سبق أنْ وضعته (في كتابي «همسات الجنوب البعيد»، الأبجديّة، دمشق 1999) ليكون ترجمة لكلمة cosmos.