لميس طوبجي – سدني
«نُولَد فنعيش فنموت» قصة قصيرة من ثلاث كلمات ولكنها حكاية طويلة.
«وما هو أهمُّ شيء في الدنيا؟» تصطفُّ إجابات كثيرة خلف إشارة استفهام هذا السؤال.
«ما هو أهمُّ شيء في الدنيا؟» إجابةٌ واحدةٌ كان ينتظرها الأستاذ المحاضر من طلابه الذين كان يزورهم مرة كل فصل دراسي، ويلقي عليهم محاضرة عن المعارك القديمة الشهيرة.
الغذاء: هو الإجابة التي كان ينتظر المحاضر سماعها من طلابه ردَّاً عن سؤاله وإلا فسيخيب ظنه. يوافق الكاتب جورج أورويل George Orwell»  « أستاذه المحاضر الرأي؛ فالكائن البشري حسب رأيه مثل حقيبة يضع فيها طعاماً، يموت الرجل ويدفن، تُنْسَى كلماته وأفعاله، لكنَّ الطعام الذي تناوله يعيش بعده بعظام أولاده.
يقول الكاتب جورج أورويل: إننا نادراً ما نعترف بأهمية الطعام، وفي كتابه « الطريق إلى رصيف ويغان» «The road to Wigan pier « يعتبر أن تغير عادات الأكل أهم من تغير الديانات والحكومات، وأن تاريخ أوروبا كان ليكون مختلفاً لولا تعلم زراعة النباتات الجذرية وأكلها، وإدخال المشروبات غير الكحولية كالشاي والكولا وغيرها إلى نظام الغذاء.
ابتكر الإنسان منذ القدم طرائق لحفظ الأطعمة كالتجفيف والتمليح والتجميد، وجاءت الحروب التي كانت تجعل من الصعوبة إعداد أطباق طازجة يومياً وتوزيعها على الجنود، ولأن الجيش كما يقول نابليون بونابارت يزحف على معدته كان لابد من حل آخر؛ حلٍّ لا يلغي الحروب بل يسهِّل مهمَّتها، لذا كان أن أصدر بونابارت منذ أكثر من مئة سنة مكافأة قدرها 12,000 فرانك للشخص الذي يبتكر آنية يمكن أن تحفظ الطعام أثناء الحروب. مبلغ الإثني عشر ألفاً لم يكن بالمبلغ الهين في تلك الأيام، إذ أثارت المكافأة ضجة في فرنسا جعلت روح المنافسة تنتشر بين صانعي الخبز وبين مقطري الخمور وغيرهم لاكتشاف طريقة لحفظ الطعام. وبقي هذا المال اثنتي عشرة سنة حتى استحقه صانع للحلوى يدعى «أبيرت» لابتكاره التعليب.
و التعليب هو وسيلة لحفظ المواد الغذائية المعقمة و السر في نجاح هذا الابتكار هو إحكام قفل العلب وحجزها عن التأثيرات الجوية الخارجية. لم يحفظ «أبيرت» الطعام في علبة من الصفيح إذ أنها كانت مجهولة في أيامه بل استخدم أوانٍ من الزجاج والخزف، وكان يقوم بوضع أنواع الطعام في ماء ترتفع درجة حرارته إلى الغليان ثم  يحكم إغلاقها. وقد احتاج هذا العمل إلى سنين طويلة قام فيها «أبيرت» بتجربة عدة أنواع للأطعمة وللأواني ودرجات الحرارة المختلفة حتى نجح في هدفه.
كان الإنسان مقيداً في حركته وفي طعامه وشرابه، وكان عاجزاً عن البقاء في مكان ما إذا كان خالياً من الطعام، وكانت اكتشافاته الجغرافية ورحلاته البحرية الطويلة محدودة، و اتساع المدن التي يسكن فيها متوقفاً على كمية الغذاء التي يمكن أن يستوردها من الحقول حوله  إلى أن ساعده اختراع المعلبات على تجاوز تلك العقبات.
إن ما نقوم به من استخدامٍ للمعلبات وتخزينٍ للحبوب والبقوليات، وتفريزٍ للخضار واللحوم يشبه ما تقوم به النملة من تخزينٍ للحبوب لفصل الشتاء، فلا أحد يعلم ما قد يفعله الشتاء فيها، قد لا تتمكن من الخروج أياماً أو أسابيع أو شهور فتلجأ إلى تخزين طعامها. قد يرفض بعض الناس المعلبات ولا يستسيغ طعمها ولا يفضلها، فيما يتقبَّلها قسمٌ آخر من الناس ويتناولها اختصاراً للجهد والتعب ومحبة لطعمها, ومابين اختلاف الأذواق نعلم أننا مثل النملة بحاجة إلى مؤونة، وأن المعلبات مهما كانت جيدة ومفيدة ولذيذة فإنها لا تغني عن تذوق الخضار واللحوم والفواكه الطازجة.
أحد المنشورات على موقع «الفيس بوك» منذ عدة أيام طلب من القراء أن يكتبوا قصة حزينة من ثلاث كلمات فقط. كثيرون عبر التعليقات أخذوا يشتمون حياتهم فيما كان حفنة من الناس متفائلين وابتعدوا عن المطلوب « قصة حزينة بكلماتٍ ثلاث» كقول أحدهم: ( أنا حي). تعليقات عديدة احتوت اعترافات بأخطاء ارتكبها أصحابها، فيما صبَّ الكثير من التعليقات في مرمى الهدف: ( سوف نموت- اشتقت إلى أبي ? لاشيء يدوم للأبد- أنا وحيد ? عالم بدون فن). وحْدَهُ تعليق غريب كان بعيداً عن الحزن يقول: (تذوَّقْ الكتب). يعادل ما كتبه صاحبه بثلاث كلماتٍ إنكليزية  taste the book»».  تذوق، الكلمة السحرية التي تجمع حاسة التذوق للطعام وللأدب والعلم.كان التعليق أشبه بنصيحة أو بفعل أمر يُشْعِرُكَ أن وجبة من الأخبار والأفكار المدرجة على «الفيس بوك» هي أشبه بأفكار معلبة ، معلوماتٍ بطعم الإدمان أُعيد تسخينها، لقيمات سريعة لاتسمن ولا تغني من جوع إلى المعرفة الكاملة وإلى وجبة دسمة كاملة نتناولها عبر إمساك كتاب وتصفح أوراقه.
«نُولَد فنعيش فنموت» قصة قصيرة من ثلاث كلمات ولكنها حكاية صعبة، نحاول بين الحين والحين أن نبتعد عما نتناوله من معلبات وعما نسكنه من علب، نحاول جاهدين أن نشق طريقنا نحو المغامرة والحلم بعيداً عن الإطار المعلب للحياة، ونسعى لكي نملأ جيوبنا بحبوب الغذاء و المعرفة من أجل شتاء العمر قبل أن تنتهي الحكاية.