رحلة في القارة الأسترالية

الحلقة  الخامسة

صورة عامة عن ولاية كوينز لاند

ديـنا سـَـليم حَـنحَن

يهيمن الساحل على ولاية كوينزلاند، لذلك ليس من الغريب أن تتركز معظم المستوطنات ومناطق الجذب السياحي في هذا الشريط الساحلي الضيق الذي يتميز بالعديد من المعالم الطبيعية الرائعة، مثل الحاجز المرجاني العظيم، طوله أكثر من 2300كم ، ويتكون  من 2900 صخرة وأكثر، فيه  5000نوع من الرخويات، 1500 نوع أسماك ، 800 نوع من قناديل البحر، 500 نوع من أعشاب البحر إضافة إلى الحيتان.
إضافة إلى الغابات الممطرة المورقة الموجودة على مد النظر، يوجد بالمنطقة الداخلية شريط «جريت دافيدنج رانج» الجبلي، ومجموعة من المرتفعات الواسعة، إلى جانب العديد من مناطق الأراضي الزراعية الخصبة المستوية التي تمتد باتجاه الغرب، تأتي بعد ذلك المنطقة النائية القاحلة والتي تنتهي عند بداية الإقليم الشمالي، كما يوجد في منطقة «جلف كانتري» وشبه جزيرة «كيب يورك» الواقعة في أقصى الشمال العديد من المناطق الواسعة غير المأهولة التي تنتشر فيها أعداد كبيرة جدا من مجاري الأنهار الجافة التي يمكن أن تفيض بالمياه في المواسم الممطرة.
اكتشفت (كوينزلاند) في بداية القرن السابع عشر، على يد باحثان هولنديان، وصلا إلى شمال (كوينزلاند) إلى منطقة تدعى اليوم ( كيب يورك بينينسولا)، ثم وصلها الكابتن (كوك) سنة 1770.
سميت بهذا الاسم نسبة ( لتوماس بريزبن) وهو جندي بريطاني وعالم في الفلك.
في سنة 1824 أقيمت أول مستوطنة عقاب في منطقة (ريد كليف)، وبعد سنة انتقلت  المستوطنة إلى مدينة (بريزبن) اليوم، وتحتفظ منطقة (ريد كليف) بالمعالم القديمة، وهي منطقة ساحلية جميلة جدا.

الطقس والمناخ

استخلصت، أنه الذي يريد الإقامة في أستراليا عليه إقامة علاقة ودية بينه والبيئة، وترويض نفسه ومع الطقس والمناخ المغاير، ما أن نزلت ولأول مرّة على أرضها أحسست باختلاف مناخها عن باقي القارات التي زرتها سابقا.
روّضت نفسي للظروف والمكان، وحمّلت قلبي المتعب الورق الأبيض حتى أدوّن الجديد فأستعيض بالكلام بياض أيامي، لم تنم أناملي وهي تخط كل شيء تراه مختلفا.
بدأ سلوك الشمس ليكون غريبا، أرسلت لهيبها مع شق النهارات وأنهتها مساء خلف السحب الغليظة، تحاول مرارا اختراقها  لكي تعلن سرورها على أرض مبللة سرعان أن تجفّ، وعندما تحتقن غضبا وتجن، أي الشمس، تتسبّب بحدوث عاصفة هوجاء مفاجئة.
تأخذك الريح معها حيث لا تدري، تستمر بضعة دقائق ثم تختفي، وفي آخر النهار تعود ساخرة باهتة، تخترق مجددا السحب المتراكمة ثم تضحك لك، تضحك كثيرا ثم تبكي قبل أن تؤول مودعة من جهة الشرق، وفي اليوم التالي، تتكدّس السحب مرة أخرى في التخوم، فينغلق وجه السماء في لحظة، التي كانت مكشوفة وواضحة قبل قليل، زمجرت الرياح ثم هبّت وحطّت  فوق رأسي مباشرة فأخذت معها قبعتي، فخيّل لي أن الغيوم تتقصدني، لو رفعت ذراعي لها لأمكنني ملامستها، ناهيك عن البرق المتتابع الذي بدأ ينذر باقتراب عاصفة قوية قادمة، روّعني صوت الرعد المجلجل وأخرجني من عمق الذاكرة، بدا لي وكأنه صوت الرصاص المتتابع في الوطن.
مساري بين الأشجار خطرا، فبمقدور الصاعقة صعقي من حيث لا أدري، أسرعت في خطوي وأنا أعتلي الطريق إلى قمته، اضطربت الغيوم مجددا فأتت بالمزيد ولم أدر كيف ومن أين، تكدّرت الأجواء، انزعجت الطيور ففرّت هاربة إلى مخادعها، انهمرت الأمطار فجأة، غزيرة مجاهدة، تدفقت وتوالدت حبات الزخم التي حطّت على رأسي بأحجامها الهائلة… مطر هذا أم حجارة؟ سألت نفسي!
لم أستطع مسح عرقي المتصبب، الجو حار ونسبة الرطوبة مرتفع والمطر الغزير حوّل الطريق في ثوان إلى نهر متدفق من المياه التي بحثت لها عن مصب فتسارعت إليه.
أظلمت الدنيا وخيّل لي أن فيضانا كبيرا سيحلّ، أو ربما قامت القيامة على هذه القارة التي تبلغ مساحتها  سبعة ملايين ونصف كم مربع.
مساحة الأزمة أكبر من تفكيري واستيعابي للحاصل، لم أدرِ تحديدا بأي مركز قوّة موجودة  أنا، هذه العواصف المرعبة المخيفة تعيدني إلى أيام الأزمات فتحضرني قصيدة كتبتها في يوم ما، دندنتها لنفسي وأظن أني لحنتها مباشرة على نغمة قلبي  وأطلقت عليها (نغمة المطر المتساقط):
– عندما ولدت ،فاليوم ذكرى ميلادي، قبل عدة سنوات من الآن
هبّت عاصفة هوجاء، ذاب الحصى في الماء، أطلقت الكرمة فتاة
كان ذلك في نيسان، نهضت من سبات
أولى خطواتي إلى الحياة، غريمتي
كان ذلك في نيسان .   .   .
يختلف الطقس في شمال ولاية كوينزلاند، إذ لا يتعلق الأمر بقدوم فصل الصيف أو الشتاء بل تتنوع المواسم ما بين الأجواء الساخنة والرطبة أو الباردة والجافة، وترتفع نسبة الرطوبة في الفترة ما بين شهري نوفمبر وديسمبر وشهري أبريل ومايو وتصبح درجة الحرارة أكثر ارتفاعاً لفترة تمتد إلى نصف عام، بينما تعتبر الفترة من يناير إلى مارس هي الأكثر ارتفاعاً في نسبة الأمطار وعلى وجه الخصوص في المناطق الساحلية الشمالية.
كما يشهد هذا الموسم أيضًا حدوث الأعاصير، ولا تشهد ولاية كوينزلاند عادة أي طقس بارد، ولكن قد تنخفض درجة الحرارة في المناطق الداخلية أو المرتفعة في المساء والليل في الفترة ما بين شهري مايو وسبتمبر، ويصير المناخ لطيفاً جداً في فصل الشتاء في الفترة من يونيو حتى أغسطس.
ما كان مني سوى الاستسلام للمطر، دندنت لحني بهمس تائهي المسافات، تبللت ملابسي تماما، خلعت حذائي الصيفي ومشيت حافية بين المياه الساخنة والمطر المنهمر، خضت معركة المشي ضد التيار، والمضي قدما بعكس تجاه الريح، حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن أسلاك الكهرباء، وأغصان الأشجار السامقة التي بدت مثلي وكأنها هي أيضا تقاتل من أجل الصراع على البقاء!

الإقامة في أستراليا  يلزمها التحديات، فالحياة فيها مغايره، بداية، تبديد الإحساس بالغربة، ثم تغيير المفاهيم التقليدية التي تعودنا عليها، والاستغناء عن بعض الضوابط، والقبول بالمُسلّمات دون مُساءلة.

قررت التخلي عن بعض خجلي وأصبح فعالة بجميع ألوان الحياة الجديدة دون تردد رافضة التنقيب عن العيوب، الانطلاق وكسر الحواجز المعيقة… بدأتها بالتخفيف من الملابس وإلغاء الكعب العالي من قاموس الأناقة، التخلص من الخجل عند سقوط المطر المفاجيء الذي سيؤدي حتما إلى السير حافية أحيانا وبملابس مبللة كليا، أعتبره شوطا هاما لا مفر منه هو أن تتبارى قدماي الحافيتان الغوص في مياه المطر على أرض ساخنة، ما أجمله من مشهد، مشاهدة ولمس البخار المتصاعد أفقيا.

أمر التكيّف لأحوال المناخ والطقس يؤدي بي حتما إلى الاستقرار، فأصبحت مهمتي مضاعفة، وهي اكتشاف الوجه الآخر البعيد، والتعرف على المعالم الجغرافية.

البحث والتنقيب أمران  لا بدّ منهما يساعداني على ممارسة العالم الجديد بكل متغيراته وتحولاته، وبالتالي تحولاتي على الصعيد النفسي والشخصي من أجل المحافظة على سلامتي وطول بقائي، كل هذا وأكثر، أو هدم كل المنعطفات والعودة من حيث أتيت!