خلال جنازة الرفيق «لينين» عام 1924، ألقى المفوض الأكبر لحركة «التنور» الرفيق لونا تشارسكي. كلمة بالمناسبة تتضمن مديحاً بعظمة الثورة البولشيفية. وتنبأ فيها ان هذه الثورة (1917) ستغزو العالم بعد مئة عام. فقال:
«سينظر الناس الى التاريخ ولن يجدوا عصراً متسامٍي اكثر من ايام الثورة الشيوعية في روسيا التي بدأت مرحلة جديدة في تطور العالم واطلقت ثورة عالمية. لهذا السبب لم يعرف الناس شخصية بشرية توحي بالاجلال والحب والتفاني اكثر من شخصية اي نبي او شخصية رجل حكيم في العالم الشيوعي، مثل شخصية خالق الشيوعية وبطلها الاعظم وشهيدها، اعني لينين.
انه اعظم من بطرس الاكبر واهم من نابليون الكبير وارفع من المسيح…
لكن التاريخ استخف بعبارات التمجيد هذه التي فاخر بإلقائها الرفيق لونا تشارسكي، كما اظهرت الاحداث طوال مئة عام، كانت خاتمتها الاحتفالات المئوية (2017) لظهورات العذراء في فاتيما لثلاثة رعيان صغار في قرية مجهولة في البرتغال. واعطت خلالها العذراء مريم ثلاث رسائل هامة تمحورت احداها حول ضرورة تكريس روسيا للعذراء وزوال الشيوعية.
ورأس، البابا فرنسيس هذه الاحتفالات (المئوية) واعلن خلالها قداسة الطفلين جاسينتا وفرانسيسكو مارتو (9 و10 سنوات) وكانت العذراء قد كشفت لهم (مع لوسيا) اسراراً، تعلّق احداها بالرفيق لينين وامبراطوريته الشيوعية.
وبعد مئة عام من قيام الشيوعية وظهورات عذراء فاتيما، وبدل ان نتذكر عظمة ووحشية الرفيق لينين، كرّم العالم بالأمس الطفلين اللذين نقلا بشارة العذراء الى العالم حول زوال الشيوعية.
الشيوعية زالت من الوجود السياسي واستمرت المسيحية رغم كل اعمال الاضطهاد والتضييق على الحريات الايمانية والشخصية. وعادت روسيا الى احضان الكنيسة والإيمان واصبحت الابنة المحببة لعذراء فاتيما . كما رجع معظم سكان الدول الشيوعية الى الإيمان بالله واتباع تعاليم الكنيسة الارثوذكسية والكاثوليكية، حسبما اعلن 90 بالمئة من سكان روسيا اليوم ودول اوروبا الشرقية: واصبحت الكنيسة تلعب دوراً محورياً في حياة المواطنين اكثر مما كانت عليه قبل مئة عام.
تعليقات الفاتيكان الرسمية على ظاهرة فاتيما فسرت فحوى اسرار الرسائل ان القرن العشرين سيكون مصبوغاً بدم الابرياء المؤمنين.
فالشيوعية لم تلد من رحم معاناة الطبقة العمالية الكادحة، بل جاءت نتيجة تخطيط مسبق اعده النورانيون والالحاد العالمي ومن ينكرون ألوهية السيد المسيح.
لذا سعوا الى قتل فكرة الله في عقول المؤمنين واعتبروا ان الدين هو «أفيون الشعوب» ولا بد من قتل الله والتخلص منه بالكامل.
لكن الله بقى حياً، فزالت الشيوعية الملحدة واستمرت الكنيسة افضل مما كانت عليه في السابق.
اليوم يجري استبدال الشيوعية بالاسلام ويعمل المتآمرون على ضرب الاديان على امل القضاء عليها جميعاً. انها المرحلة الاخيرة قبل قدوم «المسيح الدجال» او ما يطلق عليه من تسميات اخرى.
فالتطرف الذي يشهده العالم اليوم ومجموعة العملاء المزروعين في العالمين المسيحي والاسلامي والمجموعات الاصولية التي تسعى الى استعادة امجاد الماضي وفرض دولة الخلافة الاسلامية في العالم.. كلها تسير في هذا الاتجاه الذي اصبح يعرف بصراع الحضارات او صراع الاديان.
فالاحداث المؤلمة التي وقعت في العراق وسوريا وقبلها في لبنان يمكن اعتبارها مقدمة لتحبيذ فكرة إقامة دولة الخلافة. والتفجيرات في كنائس مصر . تدخل ايضاً في هذا الاطار. ما يزيد على نصف المسيحيين من دول الشرق الاوسط اصبحوا خارج اوطانهم.
مصر التي يسعى الحكم فيها الى استعادة الدولة الديمقراطية التي تحترم التعدّدية وحرية المعتقد، تتعرض منذ سنوات الى محاولات بائسة لزعزعة النظام فيها والتعرّض للاقباط وهم اصل البلاد ورواد نهضتا الثقافية.
خلال زيارة البابا فرنسيس لمصر عقد مؤتمر تعايش الاديان، حاول بابا روما ارساء قواعد جديدة لضرورة التعايش القائم على احترام الآخرين وعلى حرية المعتقد وحرية الإنسان، خاصة بعد الاحداث الدامية التي تعرض لها الاقباط نتيجة لتفجير 3 كنائس في مصر والمضايقات المنظمة طوال سنوات.
وعوضا ان يتلقف مفتي الأزهر هذه المناسبة حاول احمد الطيب اتهام المسيحيين انهم ارهابيون، مستعيداً احداثاً سياسية لا علاقة للكنيسة والانجيل والمسيحيين بها، بل هم كانوا ضحاياها ودفعوا اثماناً غالية من حياتهم وارزاقهم ومستقبلهم ووجودهم في مناطق النزاعات.
شيخ اصولي آخر، محمد حسان يدعو خلال لقاء متلفز الى عدم التعامل مع المسيحيين لأنهم «امة كافرة» (كما وصفها). كذلك فعل ابن ابو اسحق الحويني عندما صرح ان المسيحيين هم «كفّار» ولا يجوز ان يحتفلوا بأعيادهم. ودعا المسلمين الى مقاطعتهم وعدم التعامل معهم لأن كنائسهم هي دور شرك وعقيدتهم قائمة على الكفر…
الدكتورة سعاد صالح لم تتردّد خلال لقاء لها مع جابر القرموطي في برنامج «مونشيت» من الدعوة الى استبعاد المسيحيين عن مراكز الدولة والحؤول دون احتلالهم مواقع هامة.
آخر الدعوات السلفية جاءت على لسان الشيخ سالم عبد الجليل الذي وصف عقيدة المسيحيين انها فاسدة. واصدر تعليقات بحقهم اقل ما يقال فيها انها حاقدة وتتعارض مع آيات عديدة وردت في القرآن، كما انها تتعارض مع نهج الدولة التي تسعى الى بناء دولة عصرية تقوم على المواطنية وليس على التطرّف القاتل.
وأيّد شيخ ازهري آخر هو عبد الله رشدي ما جاء على لسان سالم عبد الجليل، مدعياً ان ما قاله الشيخ سالم هو ما ورد في القرآن. فيُفهم ان دم وارزاق واعراض المسيحيين هي مباحة بالمفهوم السلفي.
واثارت هذه التعليقات موجة استياء عارمة في المجتمع المصري المدني والحكومي، خاصة لدى المسيحيين الذين يردون على الاضطهاد بالمحبة وعلى العنف بالمغفرة وعلى التهديدات المتكررة بصلابة الايمان.
وتمحورت ردود الفعل على طرح تساؤلات على جميع مَن يكفرون المسيحيين ويتهمونهم بفساد الإيمان.
فتساءل احدهم: هل المسيحية هي ديانة فاسدة؟
هل تدعو الى القتل والجهل ونهب اموال الديانات الاخرى تحت اي مسمى؟ هل تدعو الى تكفير ديانات الآخرين؟ او انها تطالب بقتل من يخرج منها ويعتنق ديانة اخرى؟ وهل تدعو الى التعامل فقط مع المسيحيين ورفض الآخرين؟ المسيحية لم تدعو قط الا للتسامح والمحبة والمغفرة، وهي ترفض الانتقام.
المسيحية هي نور العالم لأنها تستمد نورها من السيد المسيح نور العالم. وهو من قال: «احبوا اعداءكم، باركوا لأعينكم، احسنوا لمن يسيئون اليكم…» وهو من دعا بطرس ان يرد سيفه الى غمده، لأن مَن يقتل بالسيف، بالسيف يُقتل.
يبدو ان القيّمين في بعض الدول الاسلامية لم يفقهوا ابعاد زيارة بابا روما الى بلادهم. البابا القديس يوحنا بولس الثاني كان قد زار سوريا على «خطى مار بولس» ودعا الحكم آنذاك الى اصلاح الاوضاع واعتماد نظام ديمقراطي عادل. عاد الى الفاتيكان بعد ان زار قبر القديس يوحنا داخل الجامع الأموي وسمع كلاماً غير مشجّع من رجالات الحكم في سوريا… وبعد سنوات انهارت البلاد على اهاليها، لأنهم رفضوا السير في النور والعيش في سلام مع الله ومع البشر.
كذلك زار البابا بنديكتوس تركيا وتلاه البابا فرنسيس في زيارة ثانية وصلى مع مفتي تركيا داعياً اياه الى شبك الأيادي لكي يعم السلام تلك المنطقة وتتصالح تركيا مع تاريخها والشعوب التي اساءت اليها. باعتقادي ان تركيا هي في طريقها الى الانهيار لأنها اساءت فهم هذه الرسالة.
بالأمس زار البابا فرنسيس مصر وفتح ذراعيه وقلبه للمسلمين في البلد الذي استقبل العائلة المقدسة عندما فرّت من وجه الاضطهاد . دعا البابا فرنسيس مصر ان تكون اهم بلد مسلم متسامح يوازي بين جميع مواطنيه.
اليوم تواجه مصر نزاعاً خفياً بين جمهورية الرئيس السيسي وجمهورية الازهر والفئات السلفية. على مصر ان تختار بين العيش بسلام ومحبة وتسامح او مواجهة مصير مجهول.
بعد مئة عام على ظهورات عذراء فاتيما تبدل العالم كثيراً.
زالت الشيوعية واضمحلت كتلة الالحاد المضطهد لشعب الله، شعب العهد الجديد.. كل ما اخشاه ان يتحول العالم الاسلامي الى رأس رمح يهدف الى اضطهاد الكنيسة والمسيحيين بعد زوال الشيوعية.
ولنتذكر قول السيد المسيح : لا تخافوا ان غلبت العالم»…
على العالم ان يحسن الاختيار قبل فوات الأوان، فلا احد يمكنه ان يحتكر الله ويصادر اديان الآخرين. فالله وحده هو الحقيقة والحياة. البشرية هي مجرّد وهم. والله ليس بحاجة لمن يدافع عنه او يقتل باسمه او يعتدي على الحرمات لحماية صورته التي يصبغها الناس بألوانهم المتسخة.
رسائل «عذراء فاتيما» والحرب على الكنيسة
Related Posts
وباء كورونا والحرب العالمية الثالثة