الشيخ محمد مهدي الأصفي

قال تعالى:
«ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» سورة الأنبياء 105

قال رسول الله «ص»:
المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وهو أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، يكون له غيبة وحيرة في الأمم حتى تضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يُقبل كالشهاب الثاقب، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
في ذكرى ولادة حفيد خاتم الأنبياء محمد «ص» الإمام المهدي المنتظر  «عج» يتشرف مركز الزهراء الإسلامي ان يرفع كل التهاني والتبريكات الى جده الرسول الأعظم – وهو في الملكوت الأعلى – والى اهل بيته الكرام العظام…
وان يقدم ايضاً التهاني للأخوة الأعزاء، مع هذه الدراسة حول مسؤولية المسلم المؤمن في عصر غَيبة الإمام الكبرى وهي لسماحة المفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد مهدي الآصفي   «رحمه الله تعالى»… وهناك امور مهمة، ذكرها شيخنا الاستاذ في محاضرته. ومن الضروري جداً مراجعتها في الجزء الاول من كتاب:
«مؤتمر الإمام المهدي ومستقبل العالم» الصادر عن مجمع اهل البيت في العراق.

 

«عصر الغَيبة هو عصر اختفاء الإمام محمد بن الحسن العكسري (عليه السلام) عن الأنظار وهو المدهي من آل محمد (عليهم الصلاة والسلام) المولود بسامراء.
وعصر الغيبة ينشطر الى شطرين: الغيبة الصغرى وتبدأ في سنة 260 هـ وينتهي سنة 329 هـ، وقد تداول امر القيادة النائبة للإمام المهدي (عليه السلام) في هذه الفترة سفراء اربعة يمثّلون الإمام (عليه السلام) وهم:
1- ابو عمرو عثمان بن سعيد العمري، تولّى السفارة عن الإمام (عليه السلام) بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) سنة 260 هـ.
2 – محمد بن عثمان بن سعيد العمري، توفي سنة 305 هـ.
3- ابو القاسم حسين بن روح النويختي، توفي سنة 326 هـ.
4- ابو الحسن علي بن محمد السمري، توفي سنة 329هـ.
وبوفاته (رضوان الله عليه) تنقطع دورة النيابة الخاصة، وامتدت هذه الفترة من سنة 260 هـ الى 329 هـ.
وبعد هذه الفترة يبدأ عصر الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام) . ولا نزال نحن في عصر الغيبة الكبرى.
وفي هذا العصر تتحوّل القيادة النائبة الخاصة الى القيادة النائبة العامة، وأمر هذه القيادة للفقهاء العدول المتصدّين للقيادة.
يمتدّ عصر الغيبة من وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وولاية الإمام محمد بن الحسن المهدي (عليه السلام) الى اليوم، وهو  اطول عصور التاريخ الاسلامي.
ولا بدّ من دراسة فقهيّة وثقافية لهذه الفترة، وإن لم يتيسّر لنا الآن فرصة كافية لهذه الدراسة فلنا ان نتساءل عن مسؤولياتنا وواجباتنا في هذا العصر.
وانا في هذه المقالة بصدد الإجابة الإجمالية عن مسؤولياتنا وواجباتنا في عصر الغيبة.

القيادة والطاعة في عصر الغيبة

واول شيء يجب علينا ان نتساءل عنه هو: هل أنّ غياب الإمام (عليه السلام) واختفاؤه بمعنى غياب القيادة والطاعة والتعليمات القيادية في هذه الفترة ام لا؟، وهل تنقطع القيادة والطاعة للقيادة والتعليمات القيادية باختفاء الإمام ام لا؟، هذا سؤال مهم وله آثار واسعة في ثقافتنا وحياتنا السياسية والاجتماعية.
والجواب على هذا السؤال واضح لمن يعرف الطبيعة القيادية في هذا الدين وفي سائر رسالات الله تعالى.

الطبيعة القيادية في رسالات الله

تأملوا في سورة الشعراء تجدون أنّ دعوة الانبياء (عليهم السلام) تتلخّص في كلمتين: التقوى والطاعة كما أنّ خطاب الانبياء (عليهم السلام) لأممهم في هاتين الكلمتين (فاتقوا الله واطيعون) أي : (أطيعوني).

التقوى في علاقة الإنسان بالله تعالى والطاعة في علاقة الإنسان بالانبياء

التقوى في الحلال والواجب والحرام، وهو الالتزام الكامل بحدود الله سبحانه وتعالى بشكل دقيق.
والطاعة في علاقة الناس بالانبياء (عليهم السلام).
والطاعة هنا مقولة اخرى غير مقولة التقوى.
التقوى لله تعالى، والطاعة للأنبياء.
التقوى في الثوابت من حدود الله، في الصلاة والصوم والحج والزكاة، وفي العبادات والمعاملات، والطاعة في الشؤون والأحكام المتغيّرة التي يأمر بها الأنبياء (عليهم السلام) حسب ما يقتضيه الزمان والمكان.
تأملوا في هذه الآيات من سورة الشعراء:
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ   * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
كَذَّبَتْ عادٌ  الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هود أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *  فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ .)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ )
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ * إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى *  رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *  وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ . )
الى آخر الآيات المباركة التي تخص دعوة الانبياء (عليهم السلام) لأممهم بالتقوى والطاعة.

الصبغة القيادية في الإسلام

عن طاعة رسول الله (ص) واولي الأمر من بعده، يقول تعالى: «أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم».
وتعدّد كلمة الطاعة في هذه الآية تشير الى اختلاف نوع الطاعة.
فالطاعة الاولى: وهي طاعة الله (اطيعوا الله) في الثوابت من حدود الله تعالى في الحلال والحرام والواجبات، وهي الثوابت الشرعية، وهي طاعة الله حتى لو كان الأمر به من رسول الله (ص).
والطاعة الثانية: طاعة لرسول الله (ص) ولأولي الأمر من بعده (وأطيعوا الرسول وأولي الأحر منكم) طاعة في المتغيّرات السياسية والاجتماعية والعسكرية.
قدِم رسول الله (ص) الى المدينة مهاجراً، فكان أوّل ما أقامه في المدينة بعد إقامة المسجد الولاية العامة والطاعة في السلم والحرب، وتقبّل المسلمون هذه الحقيقة بشكل طبيعي..

وتوفي رسول الله (ص) واختلف المسلمون في امر خلافة رسول الله (ص) الى اتجاهين اثنين، لا يزالان قائمين، ولكنهم لم يختلفوا في وجوب تثبيت الولاية والسيادة والحاكمية والطاعة بعد رسول الله.
وتعتمد طائفة واسعة جداً من احكام الله تعالى وحدوده في العبادات والمعاملات والقضاء والحدود والعقوبات الشرعية وتتوقّف على قيام الدولة والسيادة والحاكمية في المجتمع، ولا يمكن تطبيقها من دون قيام سيادة وحاكمية شرعية في المجتمع كالحدود الشرعية، وحسن النزاعات في القضاء والجهاد والدفاع.. وامثال ذلك.
ولا يمكن ان يقول فقيه بتعطيل أحكام الله وحدوده وشريعته في عصر – الغيبة، وهو اطول عصور التاريخ الاسلامي.
وعليه فإن النتيجة التي نُريد ان نستخلصها من هذا الشرح – ان عصر – الغيبة هو عصر اختفاء الإمام المهدي (ع) لأسباب يعلمها الله تعالى، وليس ذلك بمعنى غياب القيادة والطاعة.
والفقهاء العدول الأكفاء المتصدّون هم القيادة النائبة في هذا العصر.
ولا تتعطّل القيادة، ولا الطاعة، ولا التعليمات القيادية في عصر – الغيبة، كما لا تتعطّل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والدفاع.

تكاليف المؤمنين ومسؤولياتهم في عصر الغيبة
وسوف نتحدّث في هذه المحاضرة إن شاء الله تعالى في ضوء هذه المقدمة عن تكاليف ومسؤوليات المؤمنين في عصر الغيبة، وهي كثيرة، نقتصر منها على خمس نقاط:
1- المعرفة
2- الإعداد والتحضير لظهور الإمام
3- الدعاء للإمام (ع) ولنا بالفرج بظهوره.
4- الطاعة للقيادة النائبة في عصر الغيبة.
5- الثبات على مواثيق الولاية.
واليك شرح موجز لهذه النقاط الخمسة:

1- المعرفة

معرفة الإمام (ع) امر اساسي في هذه  المرحلة، فهو (ع) حجّة الله تعالى على عباده، وإمام العصر، ولا بدّ للمؤمنين من معرفة قائمة على أسس علمية متينة ومحكمة، وقناعة كاملة بحياة الإمام (ع) وغيبته، واستعداد وتأهب كامل لنصرته والجهاد بين يديه.
وهذه المعرفة لا بدّ أن تقوم على أسس تعبّدية في معظم اجزائها.
واليك توضيح هذه النقطة.

المعرفة التحليللية والتعبديّة

المعرفة في الاسلام على نحوين:
معرفة تحليلية عقليّة، ومعرفة تعبّدية.
بمعنى انّ هناك أحكاماً ومعادلات في الإسلام تقبل التحليل العلمي العقلائي بشكل واضح، وهناك أحكام ومعادلات لا نتلقّاها إلاّ من خلال التعبّد، ولا يمكن دراستها وفهمها من خلال الدراسة علمية.
وفيما يأتي نضرب بعض الأمثلة على كلّ من هذين المسلكين للمعرفة.
هناك طائفة واسعة من أحكام الشريعة والمعادلات والقضايا المعرفيّة في القرآن والسنّة والفقه نستطيع ان ندركها بعمق من خلال التحليل العلمي.
مثل قوله تعالى: «ولكُمْ في القِصاص حياةٌ يأ أُوليْ الألباب».
فلا نتوقف ولا نتردّد في فهم الحقيقة التي تقرها آية القصاص… وإنّ في قصاص القاتل والمجرم حياة وأمن وسلام للآخرين.
ويقول تعالى: «وأعدُّوا لهُم مَّا استطعتُم مِّن قُوَّةِ ومِن رِّباط الخيْل تُرهبُونَ به عدْوَّ الله وعدوّكُم».
إن الآية الكريمة تقرّر حقيقة مشهودة للعلم والعقل، وهي أنّ إرهاب العدو يحقّق الأمن والسلام للمسلمين، وأن إعداد القوة أمر لا بدّ منه لإرهاب العدو.
وفي مقابل ذلك هناك طائفة من القضايا المعرفيّة والحقائق والمعادلات التي يقرّرها القرآن والسنّة الشريفة لا يمكن فهمها إلاّ من خلال بصائر الوحي والتعبّد فقط.
يقول تعالى: «وَمَن يتَّقِ اللهَّ يجعَل لهُ مخرجاً * ويرزُقْهُ مِن حيْثُ لا يحتسِبُ).
ونتساءل عن العلاقة المحسوسة بين التقوى والرزق وانفراج الأزمة، فلا نجد سبيلاً لفهم هذه الحقيقة والمعادلة إلاّ من خلال التعبّد بكلمات الله تعالى في القرآن.
ويقول تعالى: (ولوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمنُوا واتَّقوا لفَتَحْنا عليهم بركاتٍ مِّن السماء والارض).
فنتساءل: ما هي العلاقة بين التقوى وهطول الأمطار من السماء واخضرار الأرض؟، فلا نجد سبيلاً لمعرفة هذه المعادلة إلاّ من خلال بصائر الوحي بالتعبّد بكلام الله تعالى.
ويقول تعالى: (ادعوني أسْتجِبْ لكُم).
ويقول تعالى: (لئِن شَكَرْتُم لأزيدَنَّكُم).
فلا نجد علاقة محسوسة خاضعة للمعرفة الإنسانية بالوسائل المتيسّرة لنا في المعرفة بين الدعاء والإستجابة، وبين الشكر والزيادة، ولا نجد مسلكاً علمياً اميناً للإيمان بهاتين الحقيقتين إلاّ من خلال بصائر الوحي بالتعبّد بكلام الله تعالى.

الغيبة والظهور مسألة تعبدية

واذا اتضح هذا التفريق بين مسلكي التحليل العلمي و«التعبّد» لتحصيل المعرفة في الإسلام… نقول: إن قضية (الظهور) و(الغيبة) من المسائل التعبّدية، ومحاولة إخضاع هاتين القضيّتين للتحليل العلمي تؤدي الى نتائج سلبية في نفوس المؤمنين..، ولا بدّ ان نأخذ هذه القضية وتلك من معين (التعبّد) بكلام الله وكلام رسوله واهل بيته (ع).

الظهور والغيبة

إنّ قضية الإمام المهدي (ع) قضيّتان وليست واحدة، وهما الظهور والغيبة.
أمّا قضية الظهور فهي موضع اتفاق عند جميع المسلمين سُنّة وشيعة، ولا يختلف فيها احد، ويتفّق المسلمون جميعاً على ظهور الإمام المهدي، وأنّ المهدي (ع) يظهر في آخر الزمان يملأ الارض بالعدل والتوحيد بعد ما مُلئَت بالظلم والشرك، ويخضع الله تعالى له الأرض كلّها.
وهذه روايات المتواترة عن رسول الله (ص) لا يشكّ فيها احد من المسلمين، ويتفقون ايضاً انّه من ولد فاطمة (عليها السلام).
وقد ورد ذكر هذا الحدث الكوني العظيم في كتابين من الكتب السماوي: الزبور والقرآن، يقول تعالى: «ولقد كتبْنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يَرثُها عبادي الصالحون).
وأفهم من الآية الكريمة انّ  الكتب الإلهية التي تذكر هذه القضية ثلاثة: القرآن والزبور والتوراة، لأن القرآن يذكر الزبور بعد الذكر، والذكر التوراة.
أمّا الغيبة: ففي رواياتنا روايات متواترة بالغة حدّ التواتر في كل مراحل السند بولادة الإمام المهدي (ع) بسامراء وغيبته، وفي روايات اهل السنّة اشارات واضحة الى غيبة الإمام المهدي، منها: روايات الأئمّة او الأمراء الإثني عشر في هذه الأمة التي تواترت فيها الروايات، وصحّت في صحاح الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي.
ولا يمكن تطبيق هذه الروايات على اية حالة في التاريخ غير أئمّة اهل البيت الإثني عشر (ع). ولولاهم لم يكن لهذه الرواية مصداق في التاريخ الإسلامي.. وقد صرّح رسول الله (ص) أنّ الأئمّة من بعده اثني عشر إماماً.
كما صحّ عن رسول الله (ص) : «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
وهذه الرواية واضحة في أن لكل زمان وفي كل عصر إمام عدل حق، مَن مات ولم يعرفه ولم يبايعه مات ميتة جاهلية.
فمَن هو إمام زماننا الحق العدل، الذي يقول عنه رسول الله (ص): «من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية»؟
وأمثال هذه الروايات و هي كثيرة تشير إشارات واضحة الى وجود الإمام وحياته (ع) في عصرنا. والروايات العامة من امثال هذه الروايات كثيرة ايضاً.

2- الإعداد والتحضير لظور الإمام:

الانتظار قسمان:
اولاً: الانتظار بمعنى الرصد، كما ننتظر حلول شهر رمضان، وخسوف القمر وكسوف الشمس واوقات الفريضة.
ثانياً: والانتظار بمعنى التحضير والإعداد، كانتظار المريض للشفاء، وانتظار الطالب للنجاح، وانتظار المهندس لإكمال البناء.
والفرق بينهما: انّ القضايا التي ننتظرها من النوع الأول لا يمكن تقديمها ولا تأخيرها، والقضايا التي ننتظرها من النوع الثاني يمكن تقديمها وتأخيرها، وانتظار الإمام (ع) من النوع الثاني من الانتظار.
وذلك لأن ظهور الإمام (ع) حدث كوني كبير في المساحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والحضارية. ومثل هذا الحدث الكبير الذي يخبرنا به القرآن والسنّة المتواترة عن رسول الله (ص) لا بدّ ان يكون مشمولاً لقوله تعالى: «إنّ الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفُسهم»، فلا يمكن ان يشذّ حدث بهذا الحجم من سنّة التغيير، واذا كانت سُنّة التغيير نافذة على كل قوم (لا يغيّر ما بقوم) فكيف يشذّ عنها هذا الانقلاب الكوني الشامل لكل الارض ولكل الأقوام؟.
إذن لا يتمّ هذا الانقلاب الكوني الشامل في حياة الناس ما لم يغيِّر الناس أنفسهم، ويعدّوا أنفسهم وابناءهم وبناتهم وعوائلهم ومجتمعهم وشعوب الارض لهذا الانقلاب الكوني الشامل.
ولهذا التغيير مصاديق كثيرة، منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها الدعوة الى الله، ومنها تربية الجيل الناشئ، ومتنها تزكيّة النفوس، ومنها مكافحة الظالمين ومقاومتهم والتشهير بهم وإسقاطهم، ومنها إشاعة ثقافة الإسلام بين الناس، ومنها اعداد الشاب من هذه الأمة للقيام بمسؤولية التغيير الكبير.
..
وكل ذلك من عوامل التحضير والإعداد لهذه الثورة الكونية الشاملة.
وما لم يتم هذا الإعداد والتحضير لا يتم ظهور الإمام (ع) حسب ما نعرف من سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع.
وعليه، فإنّنا يجب ان نبحث بدلاً من علائم الظهور، عوامل الشهور، والتأكيد في ثقافة الانتظار، ويجب ان نتحوّل من علائم الظهور من الصيحة، والخسف، والسفياني، والدجّال، واليماني، والحسني، الى عوامل الظهور من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة الى الله، وتزكية النفوس، والتربية، وإقامة المؤسسات الإسلامية…
… وهو انقلاب ثقافي في ثقافة الانتظار، نرجو ان يحقّقها الشباب المؤمنون في انتظارهم للإمام#، فينقلبون من بطون كتب (الملاحم والفتن) للبحث عن علائم الظهور، الى ساحة الحياة الواسعة للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة الى الله، ومقاومة الاحتلال …
واعداد الشباب لهذه المقاومة، وإشاعة ثقافة التضحية، والصبر، …. والاخلاص، والتقوى وما يتصل بذلك من شؤون العمل.
واذا حوّلنا ثقافتنا بهذا الاتجاه في مسألة الانتظار فسوف نفهم الانتظار فهماً مختلفاً تماماً عن الفهم القائم والموجود في اوساطنا الإيمانية.
وهذا الفهم الجديد هو: أنّ الإمام (ع) هو الذي ينتظر العمل والكدح والكفاح والجهاد والإنفاق والبذل والتضحية والشهادة من شيعته وانصاره ليأذن الله تعالى له بالظهور، ويتحوّل الانتظار من شيعة الإمام (ع) الى الإمام، فيكون هو الذي ينتظرنا.
ولهذا الانتظار (انتظار الإمام لشيعته) خطاب، وهذا الخطاب هو الدعوة الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة الى الله، و…
وعلى شيعته وانصاره ان يستجيبوا لهذا الخطاب، ويلبّوا دعوته، وينهضوا بمسؤولية الانتظار في الظروف الأمنية والثقافية التي يحكمها الاستكبار العالمي وامتداداته في بلادنا.
وهذا هو معنى الإعداد والتحضير لظهور الإمام (ع)، والذي تحدثنا عنه خلال حديثنا عن (مسؤوليتنا في عصر الغيبة).

3- الطاعة

ثقافة الطاعة والولاية ثقافة عميقة في هذا الدين، ولها وجهان:
الوجه الاول منهما: الولاية ، وهو الخط النازل من الله ورسوله واولياء الأمور في علاقتهم بالقاعدة الاجتماعية العريضة (الأمة) ومعنى الولاية هنا: السيادة والحاكمية.
والوجه الثاني: الطاعة، وهي في مقابل السيادة والحاكمية. وقد ذكر الله تعالى هذين الوجهين في آيتين من كتابه.
عن الوجه الأول يقول تعالى: (إنَّما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون».
وعن الوجه الثاني يقول تعالى: (أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم».
والطاعة طاعتان: الطاعة الاولى: طاعة الله (أطيعوا الله)، وهذه الطاعة في الثوابت الشرعية مثل العبادات والمعاملات، وهي طاعة الله حتى لو كانت التعليمات صادرة عن رسول الله (ص).
والطاعة الثانية: في المتغيّرات الشرعية، وهي الأحكام الولائية (السلطانية) الصادرة عن رسول الله (ص) (ص) واولي الأمر من بعده في الحرب والسلم والشؤون الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع في السراء والضراء. وهذه هي الطاعة الولائية الثابتة لرسول الله (ص) (ص) ولأولياء الأمور من بعده بضرورة الشرع، وهذه الطاعة متصلة متواصلة في أولي الأمر من بعد رسول الله (ص) (ص) الى آخر حلقة من حلقات أولي الأمر المتمثلة في الإمام محمد بن الحسن العسكري (مهدي آل محمد (ص)، وهذه الطاعة هي التي تنتقل في عصر الغيبة الى الفقهاء المتصدين للولاية في عصر الغيبة.
وتشير الآية الكريمة من سورة النساء/ 59 الى هذه التعددية في الطاعة. يقول تعالى : (اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وفي هذه الآية طاعتان طاعة لله، وطاعة لرسول الله (ص) ولأولياء الأمور من بعده وهو ما ذكرناه من تعدّد الطاعة في الفقه.

امتدادات الطاعة في الإسلام

وهذه الطاعة وتلك داخلة في عمق الثقافة الإسلامية.. ومن دون الطاعة ينتفي الإسلام رأساً، فإن كلمة الإسلام بمعنى التسليم لله  ورسوله. وهو معنى الطاعة. وللطاعة امتدادان في الفقه والعقيدة (الكلام).
ففي الفقه يبحث الفقهاء شؤون الولاية، والطاعة في باب ولاية الأمر، والحسبة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاة الجمعة، والقضاء وغيرها من كتب الفقه وابوابه.
وفي العقيدة (الكلام) يبحث المتكلّمون عن الولاية وطاعة أولي الأمر في بحث الإمامة.
وهناك تشابك واسع في الإسلام بين مسألة (الطاعة) وابواب الفقه والكلام، بل والأخلاق ايضاً.
ولذلك قلنا: ان الطاعة تدخل في عمق الثقافة الإسلامية، ويعطيها الإسلام قيمة كبيرة جداً.
ولو تلونا آيات الطاعة في كتاب الله نجد انّ الطاعة تحتلّ موقع الصدارة في الثقافة الإسلامية.
عن ابي جعفر الباقر (ع) عن رسول الله: «ما نظر الله عزّ وجلّ الى وليّ له، يجهد نفسه بالطاعة، ولإمامه بالنصيحة إلاّ كان معنا في الرفيق الأعلى».
وعن محمد بن الفضيل قال: سألته عن افضل ما يتقرّب به العباد الى الله عزّ وجلّ فقال: «افضل ما يتقرّب به العباد الى الله عزّ وجلّ طاعة الله، وطاعة الرسول، وطاعة أولي الأمر».
وروى الشيخ المفيد (قده) في الأمالي عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله: «اسمعوا واطيعوا لمن ولاّه الله، فإنّه نظام الإسلام».

توحيد الطاعة

وتدخل الطاعة في الإسلام في حقل التوحيد محضاً، وكل طاعة تخرج عن محور التوحيد طاعة غير شرعية، وذلك لأن الأصل في هذا الدين إن الطاعة لله تعالى وحده.
قال تعالى: (أفغَير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرّهاً وإليه يُرجعون).
إنّ الكون كلَّه قد أسلم لله طائعاً، إمّا طوعاً او كرهاً.
ويقول تعالى: «إن الحكم إلاَّ لله أمر ألاَّ تعْبُدوا إلاَّ إيَّاه ذلك الدين القيم).
وهذه الآية حاصرة للحكم والسيادة في الله تعالى، فلا حكم ولا سيادة في هذا الكون لغير الله، إلاّ ان يقع في امتداد ولاية الله وسيادته، واذا كانت الولاية والسيادة والحاكمية لله تعالى وحده، فإنّ الطاعة والانقياد لا تكون إلا لله وفي امتداد طاعة الله، وطاعة رسول الله (ص) واولياء الأمر من بعده، ووكلائهم تقع في امتداد هذه الطاعة، وليس في عرضها، ولا تتقاطع معها بالضرورة.
إذن، الطاعة المشروعة هي الطاعة التي تتصل بسبب وثيق صريح بطاعة الله، وأمّا الطاعة المبتورة عن طاعة الله فهي طاعة غير مشروعة.
وما يراه الناس ويتخذونه أساساً للطاعة في (الديمقراطيات الحديثة) بناءً على نظرية (العقد الاجتماعي) التي اشادها روسو، فلا اساس لها … … لأنها تبتر الطاعة عن الله،.
عن ابن ابي ليلى، عن ابي عبد الله (ع) : «وصل الله طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله».
ويقصد ابو عبد الله (ع) بـ (ولاة الأمر) الأئمة الإثني عشر من آل البيت (ع).

القيادة النائبة في عصر الغيبة:

وفي عصر الغيبة الكبرى وهو عصرنا الذي نعيش فيه تكون الطاعة للقيادة النائبة، وهم الفقهاء العدول الأكفّاء المتصدّون لولاية الأمر في هذا العصر.
وقد وردت احاديث كثيرة عن اهل البيت (ع) في النيابة العامة للفقهاء العدول المتصدّين، ولسنا الآن بصدد الدخول في هذا البحث.
فهو بحث يطول ولا يمكننا الدخول فيه في هذا المقال، وقد بحثت عنه في كتاب ولاية الأمر… إلاّ أنّني اذكر في هذا المقال بعض الاحاديث الواردة عن أئمّة اهل البيت (ع) في ذلك.
منها: مقبولة عمر بن حنظلة، عن ابي عبد الله الصادق (ع) وفيها: «مَن كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّى قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنمّا استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله».
ومنها: التوقيع الذي يرويه محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري ان يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (ع) فيه:
«وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم». … …
وبغض النظر عن الروايات المتقدمة وغيرها والتي يطول البحث عنها فقهياً اذا اردنا ان ندخل فيه.. لا يمكن ان نقبل بتعطيل احكام الله تعالى وحدوده وتعطيل السيادة والحاكمية والنظام السيادي في حياة المسلمين في عصر الغيبة بضرورة العقل وضرورة الشرع.. ولا نتوقف عند هذه النقطة ولا نتردّد فيها … …
فمن غير الجائز ان نقبل بتعطيل أحكام الله وحدوده وتعطيل النظام والسيادة في حياة المسلمين، ومن غير الجائز ان نذهب الى اسباغ الشرعية للأنظمة الظالمة الحاكمة … … ..
الطاعة في عصر الغيبة

وعليه فإننا نصل الى النتيجة التالية من خلال البحث المتقدّم في الطاعة، وهي أنّ الطاعة في عصر الغيبة للفقهاء العدول الأكفّاء المتصدّين للأمر، وطاعتهم من طاعة الإمام المهدي القائم من آل محمد (ع) كما وجدنا في الروايات المتقدمة.
وقد حرص اهل البيت (ع) في تعميق حالة الطاعة في نفوس المؤمنين، وتقوم المؤسسة الفقهية الشيعية في مجتمعات الشيعة بهذا الدور منذ عصر الغيبة الى اليوم، وتتولّى السلطات الثلاثة بصورة عملية، بغضّ النظر عن التنظير الفقهي لهذه المسألة، فهي تتولّى سلطة الإفتاء وسلطة القضاء وسلطة الولاية (السلطانية). …  …

4- الدعاء

الدعاء من اسباب الفرج

من اسباب الفرج والظهور القوية والمؤثرة الدعاء، وليس من ريب وشك ان الله تعالى يقرّب بالدعاء ظهور الإمام (ع) ويفرّجة بظهوره (ع) عن المؤمنين والمسلمين نكباتهم وازماتهم ومصائبهم، ويجمع به شملهم، ويعزّ به نصرهم.
فقد امرنا الله تعالى بالدعاء ووعدنا بالإجابة وهو صادق الوعد، يقول تعالى: (ادعوني استجب لكم».
إنّ الدعاء مفتاح الرحمة والفرج، لا شكّ في ذلك.
عن الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع): «الدعاء مفتاح الرحمة».

مفاتيح خزائن رحمة الله:

وفي وصية لأمير المؤمنين (ع) الى ابنه الإمام الحسن (ع) : «ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه، بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء ابواب خزائنه».
إنّ خزائن رحمة الله واسعة لا نفاذ  لها، ولا يرجع العبد خائباً عنها، ولكن مصيبة الإنسان أنّه لا يتعرّف على مفاتيح هذه الخزائن، ولو أنّه تعرّف على مفاتح خزائن الرحمة من مصادر المعرفة لوجد خيراً كثيراً في دنياه وآخرته.
وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا مُمْسكَ لها».
عن الإمام الصادق (ع) انّه: «الدعاء». أي أنّ الله تعالى يفتح للناس خزائن رحمته بالدعاء.

الدعاء والعمل:

ولكن من شروط إجابة الدعاء العمل، فلو أنّ الإنسان دعا ولم يسلك المسالك العمليّة التي جعلها الله تعالى للناس في حاجاتهم لا يرزق الإجابة، فلا يستجاب دعاء مريض يمتنع عن مراجعة الطبيب والأخذ بالعلاج، ولا يستجاب دعاء مَن يطلب الرزق ولا يذهب الى السوق، ولا يتصدّى للرزق في منازله، ولا يستجاب دعاء الطالب الذي يطلب النجاح والتوفيق في الدراسة من غير جهد ولا سهر ولا حضور في قاعات الدرس.
ذلك انّ لله تعالى سنن في الكون وفي المجتمع والتاريخ، ولا تجري الأمور في الكون والمجتمع والتاريخ إلاّ من خلال هذه السنن.. والذي يستجيب الدعاء هو الذي جعل هذه السنن في الكون والمجتمع والتاريخ.. فلا يصحّ ولا ينفع الدعاء اذا كان صاحب الدعاء يطلب الإجابة خارج دائرة سنن الله تعالى.
روي عن الإمام الصادق (ع) : «ثلاثة تُردّ عليهم دعوتهم: رجل جلس في بيته، وقال : يا ربّ ارزقني، فيقال له: ألَم أجعل لك السبيل الى طلب الرزق؟…»
وعن الإمام الصادق (ع) ايضاً: «الداعي بلا علم كالرامي بلا وتر».
وقد يتساءل احد: اذا كانت السنن الإلهية هي الحاكمة في الكون والتاريخ والمجتمع كما هو كذلك، فلماذا الدعاء؟، وما دور الدعاء بعد ذلك؟، فنقول في الجواب: إنّ الله تعالى خلق هذه السنن ولم يأذن لأحد باختراقها وتجاوزها، ولكنّه تعالى هو المهيمن عليها دائماً،  وهو الباسط القابض المحيي المميت، الرافع الواضع، النافع الضار، وأزمة الكون والمجتمع والتاريخ كلّها بيد قدرته، وتحت ارادته وهيمنة سلطانه.
ولسنا نقول ما يقول اليهود: «يدُ الله مغلولةْ»، بل نقول ما يقوله القرآن: «بل يداه مبسوطتان». إن الله اذا شاء أن يسلب التوفيق من عبده فلا يتوفّق في أمره، واذا شاء أن يمنحه التوفيق فلا احد بقادر على أن يسلبه الرزق، واذا شاء أن يقدّر عليه رزقه فلا احد يستطيع ان يوسّع عليه رزقه، والدعاء لله القابض الباسط المعطي المانع النافع الضار.
وليس بين الدعاء والعمل تقاطع وتخالف، بل هما يتكاملان، فلا الدعاء يُغني عن العمل، ولا العمل يُغني عن الدعاء.

بين الإعداد والتحضير والدعاء

ولقد قلنا قبل قليل في مسؤولياتنا في عصر الغيبة: إنّ من اعظم هذه المسؤوليات الإعداد والتحضير لظهور الإمام (ع) وثورته الكونية الكبرى، وذلك بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر – ثقافة القرآن والإسلام، والتزكية، والإصلاح، والتعبئة الانسانية … …
والآن اذ نتحدث عن الدعاء لظهور الإمام (ع) وقيامه وثورته الكونية في سلسلة مسؤولياتنا في عصر الغيبة، لا نقصد بذلك أنّ الدعاء يغني عن التحضير والإعداد لظهور الإمام.. وهذا خطأ كبير يقع فيه كثير من الناس للأسف، حيث يتصورون انّ الدعاء للفرج والظهور يُغنِي عن العمل للتحضير والإعداد، كما لا يصحّ العكس ايضاً، فلا يغني العمل والتحضير والإعداد عن الدعاء للإمام بالظهور والفرج..

إن التحضير والإعداد لا يغني عن الدعاء، والدعاء للظهور والفرج لا يغني عن التحضير والإعداد، وهما يتكاملان في تقريب الظهور وتعجيله بالتأكيد.
وقد كان الأنبياء (عليهم السلام) يدخلون الحروب الضارية تتساقط فيها الرؤوس والايدي والارجل ثم يدعون الله تعالى «ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين».
ولقد قدم رسول الله إلى (بدر) وأعدّ أصحابه لقتال المشركين من قريش، ولم يزل ليلته كلها كما يقول علي بن أبي طالب (عليه السلام) قائماً على قدميه يدعو الله تعالى بالنصر ويتضرّع ويقول: «اللّهم إن شئت أن لا تعبد لا تعبد».
والدعاء بظهور الامام (عليه السلام) وقيامه وثورته الكونية، الّتي وعد به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في آخر الزمان لا يخرج عن دائرة سنن الله تعالى، ولابدّ فيه أن يقترن الدعاء بالعمل، فلا يغني الدعاء عن العمل ولا العمل عن الدعاء.

الدعاء للإمام المهدي
(عليه السلام).

الدعاء للإمام المهدي (عليه السلام) من أفضل الدعاء وأشرفه وأقربه إلى الإجابة، وأكثره ثواباً عند الله تعالى، وذلك أنّ هذا الدعاء لخاتم الأوصياء وإمام العصر وحجّة الله على خلقه، وولي أُمور المسلمين جميعاً، والقائم بالأمر الّذي يبسط الله تعالى له السلطان، وينتقم به من الظالمين، وينصره على الطغاة الجبّارين،
وكذلك في نفس الوقت دعاء للفرج لعامّة المسلمين من نكباتهم، ومصائبهم الّتي تحلّ بهم.
فإنّ الدعاء للإمام (عليه السلام) بالظهور والنّصر والعزّة.. دعاء للمسلمين عامّة بالفرج العاجل القريب، والخروج من الأزمات الّتي تحلّ بهم من قبل أنظمة الاستكبار…
ولا شك أنّ هذا الدعاء دعاء في أُمور مصيرية كبرى للإسلام وللعالم الإسلامي جميعاً، وهو من أشرف الدعاء وأفضله وأثوبه عند الله وأقربه إلى الإجابة من الله تعالى – وهناك تراجع في كتب الأدعية…

5- الثبات على مواثيق الولاية.

ولاية أهل البيت

اهل البيت (عليهم السلام) هم أولياء أُمور المسلمين، والامام المهدي (عليه السلام) خاتم الأولياء، والولاية أصل أصيل في علاقتنا باهل البيت (عليهم السلام).
روى محمّد بن يعقوب الكليني بإسناده، عن أبي جعفر الثمالي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم يناد بشيءٍ كما نودي بالولاية».
والولاية مفهوم إسلامي يكثر تردّده في القرآن والحديث، ولها مساحة واسعة في الثقافة الإسلامية، وداخلة في عمق حياتنا الثقافية والعقائدية والاجتماعيّة، وهي بمعنى العلاقة الوثيقة أو (العلاقة العضوية) ونقصد بالعلاقة العضوية (علاقة العضو بالأعضاء الأُخرى في الكائن الحيّ).

البُعد العمودي والأُفقي للولاية

وللولاية بُعدان: البُعد العمودي والبُعد الأُفقي.
والبُعد العمودي هي العلاقة النازلة من الله ورسوله وأولياء أُمور المسلمين إلى القاعدة العريضة للأُمّة، وهي قاعدة الهرم الاجتماعي، ويتقوّم خطّ الولاية النازل من الله ورسوله وأُولي أمر المسلمين بالسيادة والحاكمية والقيمومة، وهو قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ».
والمقصود بالّذين (آمنوا الّذين يقيمون الصلاة) علي بن ابي طالب (عليه السلام) كما ورد في العديد من تفاسير أهل السنّة والشيعة ومدوّناتهم الروائية، يبلغ حدّ التواتر، ولا سبيل للتشكيك في ذلك.
وقد جعل الله تعالى ولايته (عليه السلام) في امتداد ولاية رسول الله، كما جعل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الولاية في امتداد ولايته تبارك وتعالى، وهذا هو الخطّ النازل من الولاية في البعد العمودي.
وأمّا الخط التصاعدي من الولاية في البُعد العمودي في علاقة الأُمة المسلمة بالله ورسوله وأُولي الأمر من بعده، فهي تتقوّم بالطاعة والنصرة والمودّة، وهي الّتي نقصدها من مواثيق الولاية، وإلى هذا الخطّ الصاعد من الولاية تشير الآية الكريمة: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».حيث أمر الله تعالى بطاعته تعالى وطاعة رسوله في امتداد طاعتهم وطاعة أُولي الأمر في امتداد طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وسوف نعود إلى الحديث عن هذه النقطة إن شاء الله في هذا المقال.
وهذا هو البُعد العمودي من الولاية في العلاقة بين الله ورسوله وأُولي الأمر والأُمّة المسلمة، وبالعكس في علاقة الأُمّة المسلمة بالله ورسوله وأُولي الأمر.
وقوامها من الطرفين السيادة والحاكمية من جانب، والطاعة وما تتطلّبه الطاعة من جانبٍ آخر.
وأمّا الولاية في البُعد الأُفقي، فهي العلاقة الّتي تربط المسلمين بعضهم ببعض بالتناصر، والتعاون، والتحابب، والتكافل، والتناصح، والتفاهم، والتصالح، والتكامل، والتآزر، والتآخي…إلخ.
وهذه علاقة واسعة جدّاً تربط المؤمنين بعضهم ببعض في ساحة الحياة الدنيا أينما كانوا، وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة: « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض»، «إنما المؤمنون إخوة». «والذين آووا ونصروا أُولئك بعضهم أولياء بعضٍ».
… … ثم يتحدث العلامة الجليل الآصفي عن الموالاة والبراءة، وعن العلاقة مع الإمام القائمة على التوافق في الحرب والسلم وعن الاتباع والإلتزام…

الإتباع والالتزام

الإتباع والإلتزام لمنهج اهل البيت (عليهم السلام) في منهج العبادة والعبودية والذكر والشكر والطاعة والإيمان بالغيب، والتصديق وفي الحياة والحركة، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي التصورات والرؤى، ومناهج السلوك والحركة والعمل، وفي الآداب والأخلاق والأعراف الاجتماعية والتقاليد، وفي العلاقات الأُسرية مثل علاقة الأُبوّة والبنوّة والزوجية والأُخوّة، وأمثال ذلك.
وهي نقاط كثيرةة تغطي مساحة واسعة من حياة الإنسان ويجمعها عنوان ثقافة العلاقة الّتي هي أيضاً شطر من ثقافة الإنسان.
إنّ منهج اهل البيت (عليهم السلام) في كلّ ذلك هو منهج القرآن والسنة النبوية، وقد ورث اهل البيت (عليهم السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنّته وحديثه، وحفظوها وكانوا خزّانها الأُمناء، توارثوها كابراً عن كابر، كما ورد في حديث الثقلين الّذي تواترت روايته من الفريقين من المسلمين ونحن نرثها منهم ونلتزمهم فيها، وهذا الإتّباع والالتزام من مواثيق الولاية.
في زيارة الجامعة: «فالراغب عنكم مارقٌ، واللازم لكم لا حقٌ، والمقصر- في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم، ومنكم ولكم، وأنتم معدنه».
وفي الصلوات الشعبانية: «المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق»، ونحن نعتقد أنّ التزامهم والتمسّك بهم في كلّ ذلك أمان للمسلمين من النار ومن الاختلاف.
وقد قال رسول الله» «أهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف».

الصبر على البأساء والضرّاء

إنّ فتنة آخر الزمان فتنة عارمة، لا تشبهها فتنة، وإنّ قادة هذه الفتنة وأولياءها يستخدمون في هذه الفتنة كلّ ما وصا إليه العقل الإنساني من فنّ وإبداع في تحكيم هذه الفتنة، ودعمها وإسنادها وتثبيتها وتوسيع مساحتها.
وتتحرّك في مساحة هذه الفتنة أنظمة استكبارية تملك المال، والإعلام والقوّة، والسلاح، وتفرض هيمنتها على مشارق الأرض ومغاربها، وتملك من إمكانات النفوذ والتأثير والسلطة ما لم يملكه الإنسان في كلّ مراحل التاريخ، من شبكات الإعلام الفضائية والنفوذ في شبكات الاتّصال العالمية، والقدرات العسكرية الهائلة، وتستخدم هذه الأنظمة كلّ هذه الإمكانات والقدرات في إفساد الإنسان واستضعافه وتعويمه وتخريبه.
وهذه هي محنة المؤمنين الثابتين على الايمان بالله في عصر الغيبة جيلاً بعد جيل. وموقف الناس من هذه الفتنة العسيرة العارمة على ثلاثة أنحاء:
النحو الأول: فمن الناس مَن ينجرف مع الفتنة، وهؤلاء هم الّذين يسقطون في الفتنة.

النحو الثاني: ومن الناس من لا تجرفه الفتنة في عصر الغيبة ولكنها تعزله وتجرّده عن سلاح المقاومة، وتهشمه بالكامل من ساحة الحياة، وتشلّه، وتسلبه الأمل والنشاط، ويغلبه اليأس والتعب، وبالتالي تُفْقِدُه المقاومة وهو أفضل من الحالة الأُولى، ولكنّها على كلّ حال حالة ضعف.

النحو الثالث: وطائفة ثالثة من الناس لم تجرفهم الفتنة معها ولم تستهلكهم ولم تسقطهم كما تفعل مع الفئة الأُولى، ولم تعزلهم وتجرّدهم عن المقاومة وتهمشهم كما تفعل مع الفئة الثانية، ولكنها تزيدهم مقاومة وصبراً، ويثبتون في وسط ساحة الفتنة للفتنة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقاومون الفتنة ويتصدّون لها، وما تزيدهم الفتنة وانحراف الناس عن صراط الله المستقيم وشرعه وهديه إلاّ إيماناً وثباتاً على الهدى.
يقول الله تعالى: «الّذين قال لهم الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل».
هؤلاء يزيدهم اشتداد الفتنة واتّساع رقعتها وانحسار الناس عن الهدى صلابةً وقوةً وإصراراً في المضي على صراط الله المستقيم، والاستعانة بالله في الطريق الشاقّ الصعب.
الثبات على المواثيق في عصر الغيبة
وبعد فهذه طائفة من مواثيق الولاء يجب على المؤمنين الثبات عليها في عصر الغيبة، ومهما صبر المؤمنون وثبتوا على هذه المواثيق فإنّهم يقربون بذلك ظهور الإمام (عليهم السلام) وثورته الكونية الكبرى، وقيام دولته العالمية، وإذا تقاعس الناس عن ذلك وتواكلوا، فإنّ الفرج يتأخر عليهم، وتطول عليهم الفتنة الكبرى الّتي طالت الحرث والنسل.
وقد يستبدلنا الله بغيرنا – لا سمح الله- إذا لم يجد الله تعالى فينا صدق النية والعزيمة والصبر والمقاومة وتحمّل البأساء والضرّاء.
وليس معنى الإمداد الغيبي الإلهي العظيم لنصرة الامام (عليه السلام) في صراعه مع أئمّة الكفر والظلم والشرك، إنّ ظهور الإمام (عليه السلام) وثورته يخرج عن دائرة سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع.
وسنّة الله في التاريخ والمجتمع هي قوله تعالى» «إنَّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم».
إنّ شرائح من مجتمعنا يقرؤون  ما ورد في كتب الملاحم والفتن من الإمداد الإلهي الغيبي العظيم للإمام (عليهم السلام) في  ثورته الكونية وقيامه ونهضته، فيتصوّرون أنّ قيام الإمام وثورته خارجة عن دائرة سنن الله تعالى، وأنّ لها وقتاً معلوماً بالزمان، وليس بأعمال الناس وأفعالهم، لا يتقدّمه ظهور الإمام ولا يتأخّر عنه، وهو خطأ كبير، والتباس في فمهم سنن الله.
فإنّ الإمداد الغيبي الإلهي العظيم لعبده ووليه القائم المنتظر حقّ لا شكّ فيه، وهو من ضمن سننه تعالى، كما أنّ سنّة التغيير «إنَّ الله لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم» سنّة إلهيّة عامّة، ولا تقاطع ولا تخالف بين هذه السنّة وتلك، بل هما متكاملتان.
إنَّ سنّة التغيير سنّة تعليقية حتميّة، لا تتعطّل إطلاقاً، ويعلق القرآن الكريم النّصر الإلهي والتغييرات الكبرى في حياة الأمم على أفعالهم وإرادتهم. فهم يقرّبون النّصر ويبعدونه ويرفضونه ويطلبونه.
وظهور الامام (عليهم السلام)، ليس بدعاً من أحداث التاريخ والمجتمع.

 

مسجد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام