رحلة في القارة الأسترالية

ساعاتي الأولى  في مدينة بريزبن

الحلقة الثالثة

ديـنا سـَـليم حَـنحَن

جهلت وجهة خطواتي… أولى خطوات الحرية، خطوت بضعة أمتار من البيت لأجد نفسي بعدها في الشارع، واسع جدا والبيوت المحاذية مسكونة ببشر لم تقع عيني عليهم طيلة أيام مكوثي.
بيوت متراصة سقوفها من القرميد الأحمر، وهياكلها شامخة مكللة بالأشجار الخضراء، ومشيدة ببيوت أخرى عالية ذات طبقات مزدانة بالزهور محاطة بالحدائق، ينتشر الأخضر في أنحاء المعمورة، بحثت عن بداياتها ونهايتها، تلك البيوت الكثيرة الممتدة بانتظام، ولم أعثر لا على بدايه ولا على نهاية، هندستها راقية ممتدة على مدّ النظر بنوافذها المغلقة وأبوابها المقفلة، دائما مقفلة، تبدو أهلا للرخاء.

دوّنت أسم الحارة في مدونتي لكي لا أنسى، (فلورا ستريت) (شارع الوردة)، ما أجمله من اسم، منه عرجت إلى شارع اسمه (بيكون ستريت) (شارع المشعل)، ما أروعه من اسم، ورقم البيت،3، أحب هذا الرقم والشقة رقمها ،33، ربما يكون حظي الجديد يقف عند عتبات رقم ثلاثة، همست لنفسي، تدرجت بهدوء وأنا أتفحص المكان، أخشى الضياع، فأنا للتوّ وصلت من رحم قديم أسقطني في رحم آخر جديد، فهذا المكان هو رحمي الجديد.
خرجت الى الطريق العام  (غلادستون رود) (الحجر المسرور)، حتى الحجارة هنا مسرورة، يا إلهي، فما الحري بالإنسان؟ ثم درست مسالك الضاحية قبل الانعطاف، ( هاي جيت هيل) (بوابة التلة المرتفعة)، أسماء كثيرة تمر أمامي، أسماء جميلة بإمكاني نظم قصيدة منها.

امتلأت رئتاي بهواء عليل رغم سخونة الطقس، متعة كبيره التجوال في ضاحية خالية من السكان، مكتظة بالبيوت، سألت نفسي:
– أين أنتم يا سكان بريزبن، وكل هذه البيوت لمن تعود؟
خسارة أكبر ألا ترى ناسها اللطيفين إلا في أماكن محددة، في الساحات والبارات والمجمعات والخ من الأماكن العامة.

كان الأمر شبيها لموقف مررت به وأنا في (باريس)، كان الجو باردا وخليت الشوارع من ناسها تماما، وعندما وصلت (برشلونة) مساء بعد أسبوع مكوثي في فرنسا، وجدتها مزدحمة جدا، تهت بين الناس وأحسستُ بالضياع، قلت  حينها:
– ( الظاهر أن جميع سكان باريس جاءوا لكي  يتناولوا وجبة العشاء على موائد برشلونة)!

وها أنا هنا الآن، في مدينة جميلة، اسمها بريزبن، لست في باريس ولا في برشلونة،ولست في لاس فيجاس، ولا إيطاليا، لم أجد أي وجه شبة بين كل ما ذكرت من مدن، لكل مدينة طابعها وانتمائها الحضاري وتاريخها ومناخها باختلاف ناسها.

تذكرت بلادي، موجة ذكريات تغرقني فجأة فتأخذني من حيث أتيت، لم يخطر ببالي سوى بعض ما قاله شاعرنا إيليا أبي ماضي، ذلك الشاعر العظيم، أحببته منذ الصغر، يشبهني على ما أعتقد، أو بالأحرى أنا أشبهه  بحبي للحياة والتفاؤل والبحث عن الأمل دائما، وها قد أصبحت مثله مهجرة أيضا، قلت معه:

– ( يا بلادي عليك ألف تحية، هو حبّ لا ينتهي والمنية… كن نبيا يستنزل الإلهاما، كن مليكا يصدر الأحكاما، كن غنيا، كن قائدا، كن إماما، كن حياة، كن غبطة، كن سلاما، لست مني أو تعشق الحرية، شوق يروح مع الزمان ويغتدي …)

تقع بريزبن على الشاطىء الشرقي للقارة الأسترالية على المحيط الهاديء، وهي ثالث أكبر مدينة أسترالية، أسست عام 1824 بداية كمستعمرة بريطانية،  وفي سنة 1839 حيث انتهى عصر العقاب ليعلن عنها منطقة حرة مفتوحة أمام المهاجرين العاديين، وفي سنة 1851 فصلت عن (نيو ساوث ويلز) حيث باركت الملكة (فكتوريا) ملكة بريطانيا هذا الحدث،  فأصبحت ولاية قائمة بحد ذاتها. (كوينزلاند) (أرض الملكات) مقامة على ضفاف نهر (بريزبن) ويبلغ طوله 40 كم.

يقيم فيها 4.000.000 حسب إحصائية سنة 2007، تطورت بسرعة فائقة  ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكانها في سنة 2051.

لقبت من البعض بمدينة (بريزفيجاس) المقصود مدينة (لاس فيجاس) أشهر مدينة أمريكية للعب القمار ورخاء الأوضاع، حيث أسلوب الحياة فيها هاديء، والاسترخاء الذي يعيشه المواطنون فيها شيء ملحوظ، ولاحتوائها على كازينو مشهور، (تراجير آيلاند) (جزيرة الكنز) والذي يعتبر مكانا ترفيهيا أكثر منه مكانا للقمار.
ويعتبرها مواطنو أستراليا بلد النقاهة يقضون فيها فترة ما قبل الرحيل ( حسب قولهم )، ويقيم فيها نسبة كبيرة من المتقاعدين والمسنين والأثرياء والمرتاحين.

بحثت عن النهر فبواسطته حتما سأتعرف على اتجاهاتي، وهكذا أيضا يكون الحال في تذاكر أسفاري. فعندما زرت (باريس) سابقا، من خلال نهرها (السين) استطعت تعيين بقعة وجودي  ومن ثم تخطيط  الطريق.

همومي أكبر من الأفق البعيد أمامي، أفق واسع  لا حدود له ممتد على طول النظر دون نهاية، وقلقي يساوي بُعد السماء التي بدت قريبة جدا، غريبة أنا في بلد جميل فماذا أفعل بغربتي وبكل هذا الجمال!
تداركت العودة بأفكاري إلى الماضي لكي لا أشعر بالحنين، فقد تركت جزءا من قلبي والقلب لا يتجزأ، تعاقبت عليّ الذكريات السريعة كتعاقب فصول  السنة، اغتالتني فتنة جميلة ومُرّة كالعلقم في آن فترددت، الاشتياق إلى تراب وطني فأعود أدراجي من حيث أتيت، أو البحث عن حياة أفضل في بلاد تحظى بالحياة…عذّبني التردد!

مشيت شوارعَا وطرقات متشابهة مختلفة الأسماء والألقاب والأرقام، خضراء ونظيفة ومرتبة، هادئة وآمنة. مشيت سبعون رصيفا وأكثر، لكن لم تسقط من ذاكرتي الطرقات القديمة، اخترت طريقا واحدا جميلا… أحسست بضياع أكيد، لكنه ضياع جميل، ابتسمت لكل هذا الضياع فطلبت المزيد،  أعدو دون غلال فتنمو داخلي عشرات الهواجس، سعادة وغبطة وحياة وحرية، ثم ينتابني ألم وانقباض وزحام وحزن وكآبة، فأيهما أوفى عليّ أن أختار؟
وقفت لبرهة في منتصف الطريق، وكأني تعودت الوقوف في محطات لا تأخذني وانتظرت، كان عليّ أن أختار.

اقتحمت سبيلا طويلا  كجندية فقدت سلاحها، كانت خطواتي ثقيلة ومترددة، ثم تدرجت طريقا لا يشبه أي طريق أعرفه، كنت متلبسة بذاكرة الخرافة، حيث ترعرعنا داخل طواطمها، لقنونا دروسا عن الغربة، غياهب والتباسات، الجانب الآخر لعالم مبهم غريب، لم أستطع الوصول إلى وجه واحد يشبه وجوه مُدُني، هنا تختلف جميع الأدوار …

– ما تزال ذاكرتي مقيدة! (قلت)
– عودي من حيث أتيتِ! (صوت الضمير يغزوني)
– لا أريد، فها هنا قررت العيش! (قلت بصوت باكٍ)
– عودي من حيث أتيتِ! (يعاودني صوت الضمير مكررا)
– لن أعود، سأبقى! ( قلت لنفسي بصرامة)

انزلقت أطرافي في كوّة بعيدة لا تشبه أي قعر، مستخدمة كل وعيي من أجل توظيفه وفتح جميع الحواجز المغلقة أمامي، لم تكن هناك شوارع مكتظة ولا رائحة عفونة، ولا بشرا يمتطون جنح الظلام من أجل سداد فاتورة ميلادهم، ولا متسولون، ولا عبيدا، ولا أطفال يرتزقون من بعض الفضلات، لا حروب واغتيالات، لا موت بالمجان، لا أحزان ولا فراق، لا سلب، لا ولا ولا . علمتُ جيدا أني طرقت أبوابا مفتوحة، حيث مساحة واسعة من جمال لا يتكرر، فساويت بين الواقع المأمول الذي أرتجيه والعالم الحقيقي الذي حطّ  بشموخه أمامي.

ترجلت من أعلى المرتفع، كان أشبه بقمة جبل مأهولة بالسكان، المدينة الكبيرة صامدة أمامي ببناياتها الزجاجية التي لمعت من خلالها الشمس الحارقة. تمنيت لو اعتمرت قبعة تقيني من لهيبها، لكن سرعان أن وضعت خطوي تحت أشجار نسقت بترتيب بمحاذاة الرصيف الذي بدأ ينحدر انحدارا شديدا إلى الأسفل.

تدرجت بين الأشجار التي منحتني بعض الظل فأحسست ببعض نسيمها. ثم فاجأني ارتفاع آخر عملاق أخذ من عزيمتي الكثير، ومن بعده يأتي انحدار آخر فتغيب عني البنايات والتي أخذت بالاختفاء رويدا رويدا، (فلكل طلعة نزله ولكل نزله طلعة).

لم أستطع سلك طرقا عرجاء لئلا توقعني في عصر تخلّفت عنه الأزمنة وخلت منه السبل! فقررت المضي نحو الأمام في طريق مستقيم مهما كانت نهايته، وعدت الى صديقي إيليا أبي ماضي وأنا أنشد معه:
– « والأرض لك ملكك والأنجم … كم تشتكي وتقول إنك معدم
ونسيمها والبلبل المترنم … ولك الحقول وزهرها وأريجها
دورا مزخرفة وحينا يهدم … والنور يبني في السفوح وفي الذرى…»

أصبح هدف الطريق واضحا، لقد ملكت أرضا أخيرا، وأستقر تفكيري على مساحة دافئة، حميمة كانت حتى لو تلظت بنار الشمس الحارقة، تتحقق رؤيتي بالمستقبل الآن، وزال عني عطشي عندما لمحت النهر العالق بين ضفتين، أسرعت إليه باسمة وكأني بذلك أسعى لارواء ظمأئي بعد عطش طويل، سأشرب منه لكي أبقى هنا، حتى لو كانت مياهه مالحة.