رحلة في القارة الأسترالية

حلقات مسلسلة

الحلقة الأولى

تقديم/ ديـنا سـَـليم حَـنحَن

يبقى سرّ الكاتب هو الاكتشاف، وطالما هو حيّ، لا يكتف أبدا من اكتشافه لنفسه ولوطنه والعالم، دائم الصيرورة يطمح إلى المزيد والجديد والغريب وغير المألوف، باحث دؤوب عن آفاق العالم البعيد فيغوص فيه حتى النخاع، فما يراه هو لا يستطع أن يراه الآخرون.
ما كان مني وعبر رحلتي الطويلة التي قمت بها عابرة القارات، رأيت أن هناك أشياء كثيرة يجب أن تدوّن مما فيها من احتواء غرائبي للمكان المسكون بكل شيء يتمناه المرء، الحب، الجمال، الاختلاف، التعددية الثقافية، الهدوء، التحضر، البيئة، الإنسان، العادات والتقاليد وكل شيء غير متوقع.
تأنيت كثيرا قبل البدء بتدوين المغامرة، لأني حاولت أن أوفّق بين السرد المُشاهد والسرد المكتوب، وحتى لا أقع في عالمي الروائي كثيرا، حاولت أن أسقط  بكتابتي حالات بغاية التقريرية والابتعاد بقدر الإمكان الوقوع في أسر السرد العاطفي، وعلى ما أظن أن رحلتي هذه ستلفت نظر المتلقي كونها مسكونة بالغرائبية العالية والتوفيقية في وصف الحقيقة لقارة أستراليا.
وألفت النظر هو أني لم أتطرق لكل الأشياء، لكني حاولت وبقدر الإمكان أن ألمّ بكل المعلومات والأماكن التي غامرت باكتشافها، علما أني لم أكتفِ بمشاهداتي البصرية واستعنت بالكثير من المصادر والترجمات سوف تنشر عند نهاية الحلقات.

 

   الحياة بدون مغامرة حقيقية لا تشبه سوى الخواء

كان  قرارا  لا رجعة  منه، بداية مخيفة ونهاية مختلفة لمشوار حيّاتي طويل، إصرار غامض  دعاني أجد نفسي في أحد المطارات، ثم مطار آخر على متن طائرة متجهة إلى عالم آخر، كوّنت صورة عنه في خيالي فقط …القارة الجنوبية، أستراليا، حيث شاءت الظروف أن أبدأ حياة جديدة فيها أسستها مجددا بعد رحلة العمر الشّاق التي أمضيتها في الشرق الأوسط.

تنطوي المسافات عبر الريح وأنا جالسة على جناح طائرة تحمل داخلها عشرات الأنفس، خارطة للكون وزر كهربائي صغير يرشدنا بضوئه إلى الأماكن التي تتخطاها المسافرة بهديرها غير المسموع وبألقها المخيف. اجتازت الطائرة عقارب الساعات واجتزت معها أعلى تصوراتي،  فخضت وحدي مغامرة الاكتشاف، فلا أحد يستطيع أن يطفئ حرائقه إلا بالحرائق، فتحتُ النار على أبواب الوجود بعمق، وقد جسّدت في رحلتي هذه لحظات الصدق.

العالم ظلام دامس، أحدّق فيه من فوق بينما أنا سجينة نافذة مستديرة صغيره أرى عبرها صورة وجهي الشاحب ونظراتي الخائفة. مرّت السّاعات طويلة ونظراتي معلّقة على خارطة الإرشاد تعيّن لي أماكن لا تزال بعيدة عن الهدف، اليونان فتركيا، أرمينيا، أذربيجان، فداغستان، حينها عدت بذاكرتي حيث الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف عندما قال:

– « يخرج المسافر في سفر…ماذا يحمل معه؟… احمل معك أغنيتك…فحملها  ليس بالثقيل».

قررت  من لحظتها  فتح دفتر ألحاني! بحثت عن مدونتي، الدفتر الذي كان أحمره في جيبي، وللآن لم أجده إلا في محطات التوقف. قال أحدهم: هذا أحمر، قلت: هذا دفتري، ردد آخر: هذا أخضر، أعبر، ضاع مني الدفتر وما زلت أبحث عن دفتر يشبه نفسي!

في وقفة الاستراحة ومدتها سبع ساعات في مطار (هونغ كونغ) الدولي، لم أستطع الخروج منه، انتظرت فكان انتظاري أشبه بأن يكون (انتظار غودو)، لم يأتِ أحد  لملاقاتي ولم أجد وجها أعرفه، ولم أستطع مبارحة المكان أيضا. أشخاص غرباء مروا من حولي، تساءلت كما تساءل (إيستراغون)، ( بطل بيكيت في مسرحيته الشهيرة): (أين نحن؟)، (من هم الآخرون؟)، ( ومن كان هؤلاء)؟

أسئلة كثيرة أخرى لا حصر لها تأخذني من حيث أتت بي الريح إلى وطن غريب أناسه يختلفون عنا، في بنياتهم وأحجامهم وقصر قاماتهم، لغطهم وأصواتهم العالية. لم يكن مني سوى الصمت والانتظار، أنتظرت حتى الساعة الحادية عشر ليلا حتى تأخذني طائرة أخرى فأرحل لمتابعة هدفي، حتما سأصله بعد عشر ساعات، يعني سأكون في حضرة (بريزبن) المجهولة بعد عشر ساعات، تلك المدينة التي سمعت عنها الكثير، وانتظرت… استطعت لملمة بعض أفكاري الهائمة لأحطها على سحر وجمال تلك البقعة العائمة على بحر نقّال (هكذا أصفها) فرؤيتها من الجو وعن قرب يدعوني إلى تحقيق أمنية كبيرة مستقبلية، وهو الولوج إليها مهما سيكلّفني الأمر، أقصد بريزبن.

لنعد إلى المطار، أشبه بأن يكون (هونك كونج) مصغرة، عادات وتقاليد لا تشبه أي مكان. الطعام، الملبس، الزخارف، الأجساد المتحركة على شكل روبوتات صغيرة تسير ببطء شديد فتبدو وكأنها واقفة.. العيون الصغيرة، نظرات حادة، كان من الصعب علي الدخول في متاهاتها فوفرت جهدي من قراءتها.. الأقدام الصغيرة بأحذيتها الصغيرة، السيقان النحيفة بتنانيرها الطفولية، الأكتاف النحيلة، الأذرع، الوجوه…. كل شيء فيهم نحيف وصغير، صغير جدا!
قام الرجال بتدليك النساء البيض في حوانيت المساجات داخل المطار، حيث خصصت لتكون تزجية للوقت، بدءا من الأقدام وحتى الرؤوس. أردت وضع قدميّ في الماء لتدليكها وأدع أحد الغرباء إزالة التعب منهما، لكن عدتُ بي، فنظرات أحدهم الخبيثة شوّهت داخلي روح الطمأنينة، ناهيك عن حبي للاكتشاف والتعرف، آثرت المضي في رحلتي المطوقة لأكتشف وطنا جديدا بصورته المصغرة جدا، عالم آخر مختلف بحيثياته التقليدية، مغلق على نفسه، في أحد المطارات.

واستمر بنا المشوار فوق مانيلا، بابوا غينيا الجديدة، المحيط  الهاديء، فولاية (كوينزلاند) الأسترالية.
في اللحظات الأخيرة وقبل الوصول سألت نفسي السؤال الصعب:

– هل هو خطأ أن أكون بعيدة عن الوطن، ماذا أفعل هنا، هل سأتوه في الغربة؟ وأسئلة أخرى كثيرة لا حصر لها. أردت العودة وحدّثت نفسي عن الرجعة، فقالت لي:
– لا أعلم طريق العودة وستبقين هنا!

شكرت نفسي لاحقا على الخطأ الجميل، وهو بقائي في هذه البقعة الجميلة، إن سمي خطأ!
يوما ونصف من الانطلاق وبعد غفوة خاطفة، حيث كانت أذناي مغلقة أمام جدار مغلق، سمعت ضجيج العالم من حولي والرّكاب يصفقون سلامة الوصول،  لم أستطع سماع هذيانات نفسي، حيث سقطت مرة واحدة في ذهني ذاكرة المشي، بعدما استطعت رؤية سحر آخر جديد من الجو، سماء مختلفة، عندما حطّت بنا الطائرة سالمين في  مطار (بريزبن) الدولي، ومن هنا  تبدأ الحكاية.

يتبع   3