لميس طوبجي-سيدني
يُلملم الشتاء حقيبته ويمضي، يسلِّم مفتاح الفصول إلى الربيع، ويترك لنا ثلوجاً تذوب دفئاً فوق سلالم الحياة، نخرج من منازلنا بعد طول شتاء، نمشي بهدوء خوفاً من أن نجرح خد شقائق النعمان، نطيل التأمل في قوس قزح بنفسجي موشى بالأصفر اسمه زهر السوسن. تنقر الشمس بأصابعها الدافئة نوافذنا وترشُّ لنا نرجساً في كل خطوة في شوارع الشام. يطل شهر آذار برفقة الربيع ليهدي الأمهات وروده. نقتدي بالطبيعة ونهدي الأم ورداً وعطور. ست سنوات عجاف مرت على سورية جعلت كلمة العيد فيها مناسبة حزن ودموع لا فرح، ست سنوات قصَّت الحرب فيها أجنحة الأمهات وتركتهن من دون أطفال ومن دون عيد ومن دون ورد، ست سنوات كانت فيها المرأة ضحية وبطلة. ضحت بسعادتها برؤية أطفالها حولها وأرسلتهم بعيداً عن حضنها إلى حضنِ بلاد أكثر أماناً ورفاهية. ست سنوات قلبت فيها الحرب الموازين، والوردةُ التي كان من المفترض أن يهديَها الشَّابُّ إلى أمه في عيدها زَرَعَتْهَا له فوق قبر استشهاده.
محرك البحث على الإنترنت يرميك في أحضان الأمهات إذا ما طلبت منه أن يحدثك عن حنان الأمهات وتضحياتهن بأنفسهن لحماية الأبناء أو الأزواج أو الإخوة. حكايات تزرع داخلنا إحساساً بأن غريزة الأمومة تتغلَّب على غريزة الحياة قوة.
داخل دار العجزة ألتقي كل أسبوع بامرأة مسنة أحادثها ساعة من الزمن ثم أمضي. تحدثني مطولاً عن أولادها، وتعيد سرد قصص كثيرة دارت حول حوادث معينة مرت في حياتها. وحين سلمت عليها المرة الماضية وسألتها عن حالها بكت، وحين سألتها عن سبب بكائها أخبرتني أنها خائفة على أطفالها الذين أصيبوا صباحاً بحادث سيارة. الحادث قديم وأطفالها الصغار كبروا وأصبحوا آباءً وأمهات، لكن حزنها طازج وخوفها على أطفالها يجعلك تتخيل سيارة إسعاف وهي تنقل الجرحى وتنطلق مسرعة. النسيان هز شجرة ذاكرتها ولم يُبْقِ لها سوى بضعة قصص تعيد تكرارها وأمومة غضة. تحدَّت أمومتُها النسيان، و بدل أن تتأوه من آلام جسدها راحت تبكي على حادثٍ كاد يودي بحياة أبنائها منذ سنوات بعيدة.
في دمشقَ تعيش امرأة عجوز فقيرة تجاوزت الثمانين من عمرها ولا أولاد لها. امرأة تمتلك عيناً واحدة تبصر بها، وكرامةً تجعلها تعمل في بيع الحلويات للمارة من دون أن تتسوَّل النقود أو الشفقة. اتكأت على أمومتها وتبنَّت في زمن الحرب طفلين صغيرين ابتلعت الحرب والديهما. عجوزٌ تلون شعر رأسها بالأبيض وبقيت أمومتها فتيَّة. عجوزٌ تستحق أن يهنئها الجميع، أن يهديها أحدٌ عطراً أو ورداً، أو يترك فوق جبين أمومتها قبلة.
«صباحُ الخير يا حلوة، صباحُ الخير يا قِدِّيستي الحلوة، مضى عامان يا أمي على الولد الذي أبحر برحلته الخرافية، وخبأ في حقائبه صباح بلاده الأخضر وأنجمها وأنهرها وكل شقيقها الأحمر». كلمات نزار قباني تشبه من سافر بعيداً عن أمه بسبب الحب أو الحرب أو الرغبة في العمل أو الدراسة. سبق لغسان كنفاني أن ابتكر فكرة إهداء ابنة أخته لميس قصة كل عيد ميلاد لها كي تكبر القصة معها، و لو قمنا بتطبيق نظرية غسان مع ابنة أخته على قصيدة نزار لكان من الممكن أن نكبر مع القصيدة فنقول: مضى عامان يا أمي على الولد الذي أبحر، مضت ثلاثة أعوام يا أمي، مضت أربعة أعوام، عشرة، مضى العمر يا أمي على الولد الذي أبحر. « فما أخبارها الفُلَّة ؟ ما أخبارها الياسمينة ؟ «ما أخبارها دمشق؟
من سجنه وفوق علبة السجائر باح محمود درويش بحنينه إلى أمه وخبزها وقهوتها ولمستها. ومن غربتي وفوق صفحات الجرائد أشارك درويش مشاعره، وأحنُّ إلى مَنْ علمتني حروف الهجاء وأبجدية العطاء. أحن إلى من علمتني أن أصافح الناس بقلبي وابتسامتي، و أن أنصت إلى صمت الشجر قبل حفيفها، وأن أمشي تحت المطر حين يختبئ الناس في البيوت وتحت المظلات، أحن إلى من علمتني كيف أتعقَّبُ أزهار السوسن التي تنبت في الروح بعد تذوق الشعر و الموسيقى. أحن إلى معلمتي وصديقتي التي علمتني أن الطريق إلى قلب الحياة حلم. أحن إلى أمي التي علمتني الكثير ولا تزال. أحن إلى طيِّبَة القلب التي قالت ذات يوم للصٍّ سرق جوالها من يدي: « يا بني فليرض الله عنك أعد لي الجوال «. وقفت يومها ثوانٍ أحاول استيعاب الذي دفعها لتغمر لصاً برضاها وترجوه بكل لطف أن يعيد ما سرقه، ولأنني علمت أنه لن يمكنني يوماً اللحاق بطيبة قلبها كان علي اللحاق باللص، وإعادة الجوال إليها مع ما يحويه من صور ياسمين يشبهها ببياضه، لا تزال أمي إلى الآن تتعقب آثار كل ياسمينة تتفتح في دمشق وتصورها وترسلها إليّ. في غربتي اليوم أعتمد على نفسي، وأنظف منزلي وحدي وأكوي ملابسي وأعد طعامي وحدي، تساعدني ملائكة دعت أمي الله أن يهيئهم لي لمساعدتي.
لا أعلم كيف نهدي الأم ورداً وربيعاً في عيدهن، والجنة مزروعةٌ تحت أقدامهن؟!