بقلم بيار سمعان
انا مواطن عربي اعددت جواز سفري، وحملت حقيبتي وابحث عن وطن

انا فلسطيني، حفيد النكبة، احمل جواز سفر خاص، بصم عليه قادة العرب وزعماء العالم على ان شهويتي قيد البحث».
أقف على حدود الدول العربية ولا اعرف وجهتي بعد. فالمعاناة الطويلة اعمت بصيرتي بعد ان سقطت الشعوب العربية في رتابة خطاب التحرير والتطويع والمتاجرة واغاني العودة.
مخيمات شعبي اكتظت بمشاعر الألم، بانتظار «العودة». فدفعنا اليأس للانخراط في حروب عبثية قضت على ما تبقى من مشاعر الأمل والرغبة في الكفاح من اجل القضية .  ظننا ان طريق القدس تمر بعمان وبيروت وبغداد والشام… لكنها كانت طرقات قاتلة.
لا زلت احمل ذكريات الماضي الأليم، واتمسك بوعود كاذبة لعلها تصبح صادقة، احمل حقيبتي وهويتي المنتقصة، بعد ان تخلى الجميع عن قضيتي «الجوهرية والمحقة»…
انا مواطن ابحث عن وطن…
لبناني متجذر في التاريخ والارض والايمان. وكيوسف الصديق، باعني جميع اخوتي.
انا لبناني ابحث عن وطن بعد ان طُعنت مراراً في الظهر، لأنني اختلف في شخصيتي وحريتي عن الآخرين، ولم اضع لنفسي حدوداً يفرضها الفكر القبلي المحيط بي.
ابحث عن وطن، بعد ان تحوّل بلدي الى مغارة لصوص على يد زعماء الحرب واثريائها والمتسلطين على ارادة شعبها…
ابحث عن وطن بعد ان اصبح الفساد عرفاً والاستخفاف بعقول ابناء امتي تقليداً. احمل حقيبتي لارحل، بعد ان تحوّل الوطن الى مكب نفايات لا يشتم رائحته الكريهة زعماء بلاد، لأنهم اهل الفساد والفسق والرياء والكذب.
ابحث عن وطن بعد ان نظرت حولي ورأيت الأمية والجهل يسيطران على العقل العربي، واقتنعت ان الانظمة المزروعة لا يهمها سوى ارضاء من يحمي وجودها في السلطة.
قررت الرحيل بعد ان تأكدت ان الحضارة العربية تحتضر في الاذلال والتزلم وتغييب العقل. وان من يجرأ على الكلام والتساؤل واعتماد الحس الانساني هو عميل وخائن ومحرّض ومشاغب وثائر يريد زعزعة الانظمة وتعطيل الفكر الالهي.
انا اعيش في وطن بلا حدود، بعد ان شرعت كل ابوابه وحدوده امام الثوار والمجاهدين وتجار الهيكل وباعة المخدرات وسماسرة الوحدة العربية وامواج اللاجئين… والسلطة لا تمانع ، لانها المستفيد الوحيد من تجارة الهيكل…!!
ابحث عن وطن، لأن الكرامة اصبحت تقاس بعدد الدولارات، والمحبة بحجم الاستفادة، والوطنية بالصفقات المشبوهة.
قررت الرحيل بعد ان قسموا الشعب قبائل وعشائر ومذاهب وطوائف ألزمت نفسها باشخاص وقادة يختصرون وجودها ويحتكرون مصالحها وحقوقها. وطن تغيب عنه المساءلة، لا بل تصعب فيه محاكمة المسؤولين «الفاسدين» لأن المساس بهم اصبح تعدياً على طوائفهم ومذاهبهم.. والشعب يسير وراءهم كالنعاج.
قررت البحث عن وطن بعد ان يئست وصدمت مراراً، منذ ما قبل الاستقلال حتى اليوم. لم يتمكن قادة البلاد من بناء وطن يحفظ كرامة الانسان وحقوقه، بل اكتفوا بتوزيع المغانم، وتوريث المواقع والسلطة الى ابنائهم واحفادهم.
احداث تتكرر. الجناة هم هم انفسهم والشعب هو دائماً الضحية…
انا ابحث عن وطن، سوري انا وعراقي وكويتي ويمني وجزائري ومصري.. مواطن انطق «بلغة آدم» وافاخر بماضٍ لم يكن وثقافة جمعت من فضائل الثقافات المجاورة. لكنني قررت عدم القراءة واكتفيت بأقل من كتاب واحد.
انا مواطن عربي ابحث عن وطن، مهما يكن هذا الوطن.
لم اعد اكتفي بالوقوف امام السفارات، بل صممت ان انضم الى قوافل اللاجئين، احرقت اوراق هويتي واخفيت ماضي واصولي، وقررت السير نحو الغرب، بعد ان اقفلت كل ابواب الأنظمة العربية في وجهي، فلم يبق سوى الغرب «الكافر»..انظر الى الوراء وارى سوريا تتدمر وتهدم مدنها على رؤوس ابنائه، واذرف دمعة على العراق الذي يجري تفتيته، وارى اهل اليمن يموتون جوعاً ودول الخليج يموت سكانها من التخمة وما تخلفه من امراض، رسالتهم: ارحلوا وانشروا ثقافة العربي بين الشعوب انجبوا اطفالاً يقودون ثورات مستقبلية في ارض الكفر…
ابحث عن وطن لأنه جرى استبدال الإيمان بالتعصب، ومحبة الله بكراهية الانسان.
شعوب تقتلع من ارضها وتاريخها لأنها تختلف معنا بإيمانها…
تاريخ يعود آلاف السنين، هو مهد الحضارة يجرى تكنيسه من الوجود لأنه يتعارض مع ايماننا المبتور.
امة عربية لم تتعرف على الوحدة الا في خطب «الجمعة» ومؤتمرات القمة.. جماعات تكفِّر مَن يعارضها الرأي، ومرتزقة يقتلون باسم الدين.. واي دين يوصي بالقتل؟ أهو من الله وبأمر منه؟؟
مع اطلاق الصواريخ نتهم الغرب المستعمر ونتناسى ان تاريخنا العربي بني على الدم. انظمة تولد بالانقلابات وتستمر بالاضطهاد وتذهب بانقلابات مضادة.
الشعوب العربية تقف كلها باكية على الأطلال. اطلال ماضٍ من الخيال، واطلال دمار المدن والقرى المزحولة.
انني ابحث عن وطن، بعد ان تحوّل الوطن العربي الى لعنة دهرية. لعنة الجهل والتطرّف والأميّة والتزلم والقتل والاغتصاب وبيع السبايا، انها لعنة لا بد ستحمل كل ويلات التاريخ ولن تترك شيئاً ناصعاً نحدث ابناءنا عنه.
انا عربي، اعددت حقيبتي وقررت الرحيل، لأن الأمل الذي احلم به لم يعد موجوداً في وطني، ولأن رائحة الموت اصبحت تنبعث من تربته بعد ان حولتها الانظمة الفاسدة الى مقابر جماعية.
أهو القدر؟ ام انه المؤامرة الكبرى، ام انه الغباء المطبق والمعدٍم ؟ ربما قد يكون كل هذه العوامل مجتمعة.
قررت الرحيل، فليدفن الموتى امواتهم… انا انتمي الى حضارة الحياة لذا انا ابحث عن وطن اعيش فيه بكامل حريتي وامنحه مواهبي وقدراتي كاملة بعد ان اصبحت منبوذاً في وطني.
وليتلذّذ اهل الشرق برائحة الموت وانتشار الفساد والكبت والظلم والاستغلال والتخلّف… وهذه مزايا لم تتمكن يوماً من بناء وطن…
لقد مات وطني وانا ابحث عن وطن.
pierre@eltelegraph.com

Refugees 1+2+3