كندة سمارة ملبورن
تتصدر النقاشات مؤخراً عن أنّ ما يعانيه العرب من حروب همجية في وقتنا الحاضر إنما تعود جذوره لأسباب تاريخية. حيث يُرجع البعض السبب لتاريخ العرب القبلي وأحياناً الديني في ظهور تلك الأطراف لمتشددة. بينما يحاججهم طرف آخر بقوله أن الأخلاق العربية الأصيلة والدين الإسلامي السمح ما كانا ليسمحا بهذا الحقد والعنف. لتظهر مجموعة أخرى مستندة في حجتها على أنّ مواقف المتطرفين تعتمد على مبادئ الدين النقي، وأنّ التراث الإسلامي ومواقفه واضحة دائماً من الغير متجاهلين أي اعتبار للنسبية التاريخية. وهذا الموقف الأخير للأسف هو الصاعد مؤخراً، سواء على الساحتين العربية أو الغربية، فتراهم معتلين منابر الإفتاء ويعتمدون المواربة في إعلان موقفهم المؤيد للتطرف، لأنهم ضمنياً مقتنعون بأنها تطبيق لأسس الشرع الأولي.
أما على الساحة الغربية، وعلى الرغم من عدم خلوّها من التحيّز في بعض الأحيان، إلا أنّ معظمها يعتمد على التنظير والتحليل العلماني، مختزلين شخصية الشعب العربي ضمن نمط محدد وهو عدم قدرتهم على العيش إلا في كنف الأنظمة الشمولية التي تعوّدوا عليها قبل الإسلام وبعده. في حين تؤمن مجموعة أخرى بضرورة تحليل وفهم الإسلام الأولي، أي زمن الرسول الكريم، لكنهم يضعوه ضمن سياق ثقافي وسياسي مما يؤثّر في فهم معناه. بينما يرى آخرون، أنّ فشل العرب حالياً يعود لاستعارتهم الحداثة من الإستعمار الغربي في القرن التاسع عشر، فانعكس سلباً عليهم، وتسبب بأزمة في هويتهم العربية.
من خلال العرض السابق نجد أن الخطابات جميعها، العربية والغربية، قد أهملت جانباً مهماً من التاريخ العربي، هذا الجانب يعطي صورة تناقض الطروحات السابقة. فهي لم تسلّط الضوء على فترات تاريخية طويلة من التعايش الديني والمذهبي والذي أظهرته العديد من الدول الإسلامية في تعاملها مع الثقافات المحليّة على الرغم من اختلاف انتماءاتها الدينية والمذهبية. كما لم يستبدل المسلمون الفاتحون العملات المستعملة في تلك البلاد على الرغم من احتوائها على صور ملوك وأمراء ورموز مسيحية بل تداولوها في معاملاتهم، فالعرب الفاتحون لم يكونوا بالمتشددين أو الأصوليين بحسب المفهوم الحالي للكلمة، ولم يتعاملوا مع التراث على أنه شيئ ثابت غير قابل للتغير. فبلاد الشام وحتى بدايات القرن العشرين كانت موزاييكاً من الديانات والأعراق والمذاهب، كما شكل فيها العرب غير المسلمين 30 في المئة من نسبة السكان. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه في كثير من الجوانب، فالإسلام لم يقضِ على الوجود غير الإسلامي، على عكس ما حصل في أوروبا والتي تخلًصت من كل الديانات غير المسيحية ولعدة عقود. فالمسلمون تفاعلوا مع الثقافات الأخرى وأخذوا منها وأعطوها، وأنتجوا مزيجاً من الثقافات المختلطة، عرفناها اليوم باسم الثقافة الإسلامية. هذا هو التاريخ الذي علينا التركيز عليه واستعادته بجميع تنوعاته، لا التاريخ المختزل المتشدد في أصوله وغائيته، والذي تتحفنا به المجموعات المتطرفة والعنصرية والطائفية.