انتم ملح الأرض…!!
فكرّت وترددت كثيراً قبل ان اقرر الكتابة عن موضوع الاعتداءات الجنسية على الاطفال داخل الكنيسة وفي المجتمع بشكل عام. فهذا الموضوع المعقد والذي تختلط فيه الأمور الشخصية مع القضايا القانونية، وتتشابك فيه الاخلاقيات والايمان مع روح العالم وتتضارب المعتقدات مع نظريات المؤامرة. هو موضوع معقد للغاية.
ومهما تعددت الاسباب والدوافع، فلا دخان دون نار ولا اشاعات دون جزء من الحقيقة المؤلمة. فالأنباء التي نشرت في وسائل الاعلام مؤخراً بناءً على تقرير المفوضية الملكية لمكافحة الاعتداءات على الاطفال ومدى شيوعها في المدارس والمؤسسات المسيحية لا بد من التوقف عندها، لأنها مسيئة الينا جميعاً كمواطنين وكمؤمنين وكمؤسسات كنسية تسعى للسير على خطى المسيح.
انها مسيئة الى الاطفال بالدرجة الاولى، والى صورة رجال الدين، ومسيئة الى الكنيسة جمعاء والى صورة المسيح. وهو من قال : كل ما فعلتموه الى احد اخوتي الصغار فلي فعلتموه.
وانا شخصياً، لا ادعي الكمال ولست هنا لأدين احداً او ادعو الى الثورة على رجال الدين وانتهي بالقول: «ان الله قد مات». فجميعنا اغصان في كرمة الرب، والغصن اليابس لا بد ان يقطع، لتعطى الكرمة ثمراً وافراً ومباركاً، كما هو مطلوب منها.
ما يزيد على 44 الف شكوى اعتداء هي الآن امام المفوضية الملكية. فكم من الفضائح واخبار المآسي سوف نسمع من الآن وصاعداً؟؟ لكن لنبدأ اولاً بتحديد انواع الاعتداءات على الاطفال.
< انواع الاعتداءات وآثارها.
تحدد القوانين عدة انواع من الاعتداءات واهمها: الاعتداء الجسدي والاعتداء الجنسي وسوء المعاملة العاطفية والاهمال والعنف العائلي والاهمال في توفير الرعاية الطبية.
كما يوجد انواع اخرى من سوء المعاملة يحددها الخبراء ومنها اهمال الاطفال بسبب الهجر والاتجار بهم وارغامهم على العمل الشاق في عمر مبكر وتعريضهم لمواد كيمائية خطرة ولتعاطي المخدرات والكحول. كما يوجد ممارسات شاذة تتعلق بالتمييز الديني او العرقي او الثقافي بينهم.
غير ان الاعتداء الجنسي على الاطفال قد يرافقه عناصر عديدة ملازمة مثل الترغيب والترهيب والتهديد بالعقاب في بعض الحالات، اذ يأمل المعتدي من جراء ذلك ابقاء تعدياته قيد الكتمان.
وللاعتداء على الاطفال انعكاسات سلبية لا تقدّر على المدى القريب والبعيد. فهي تؤثر على صحة النمو العقلي لدى الاطفال وعدم القدرة على تحقيق الانجاز العلمي. وقد يتسبّب بالانحراف خلال فترة المراهقة والوقوع في حالة من اليأس والحزن ومحاولة الانتحار والاقبال على تعاطي المخدرات والميل الى الاعمال الاجرامية ومحاولة الفتيات الحمل والانجاب المبكر للتعويض عن مشاعر القلق ولتأكيد مشاعر الامومة المنتهكة في مراحل مبكرة.
ويقول خبراء ان العديد من المعتدين تعرضوا بدورهم لاعتداءات جنسية في طفولتهم.
< اعتداءات جنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية
– لم تساعد محاولات التستّر على الاعتداءات الجنسية على الاطفال من الجنسين على ابقاء هذه الاعمال الشاذة قيد الكتمان خلال القرنين العشرين والواحد والعشرين. فاشيع في وسائل الاعلام العالمية انباء عن قيام بعض الكهنة والرهبان باعمال اعتداء على اطفال من صغار السن في بعض الحالات (3-4 سنوات) لكن يبلغ متوسط اعمار الاطفال المعتدى عليهم عامة بين 11 و14 سنة. وجرت تحقيقات عديدة ومحاكمات وادانات بحق اشخاص في السلك الكهنوتي.
وبدأت ادعاءات حول الاعتداءات الجنسية تلقى تغطية اعلامية واسعة منذ نهاية 1980. واخذ العالم يسمع شهادات حيّة لأناس، اطفال وراشدين، تعرضوا للاعتداء الجنسي المتكرر وبعضهم طوال سنوات. وادت بعض الحالات الى الادعاء على كهنة ومسؤولين ، كانت نتائجها انفاق الكنيسة الملايين من الدولارات لتغطية نفقات المحاكم ودفع التعويضات لبعض الضحايا.
في ايرلندا، كندا واستراليا والولايات المتحدة دافع رجال الدين عن موقف الكنيسة الرسمي الذي يشجب ويدين مثل هذه الاعمال. وانتقد هؤلاء التغطية الاعلامية المضخمة وغير المبررة والموجهة ضد الكنيسة بجميع مؤسساتها ومقوماتها.
واعترض البعض على استهداف الكنيسة رغم ان ظاهرة الاعتداء هي ظاهرة عالمية وتطال اكثر من فريق او مجموعة، بعضهم يحتل مراكز مرموقة في المجتمع، والبعض الآخر توصل الى انشاء عصابات وتنظيمات تستهدف الاعتداء على الاطفال والاتجار بهم، وهذه ليست من مزايا الكنيسة، بل هي انتهاكات شاذة…
واعترض البعض على تقصير المسؤولين الذين لم يعالجوا ظاهرة الاعتداء من اصولها، واكتفوا بنقل المعتدي الى ابرشيات اخرى حيث تابع ممارساته الشاذة ضد ضحايا جدد.
المؤسف ان بعض الحالات تحولت الى روايات ثم انتجت افلاماً سينمائية اهمها فيلم Spotlight 2015 يعالج قضية الإساءة الى الاطفال في اوروبا.
وبين السنوات 2001 و2010 اقر الكرسي الرسولي ان الكنيسة لم تعالج بشكل متكامل ادعاءات الاعتداء الجنسي على الاطفال وانه لم يجر معالجة هذه الظاهرة التي تعود في جذورها الى القرن العشرين.
واظهرت احدى الدراسات وجود انخفاض في معدل الاعتداءات الجنسية في السلك الكهنوتي خلال العقدين الأخيرين وان معظم القضايا التي يروّج لها في وسائل الاعلام تعود الى الثمانينات من القرن الماضي (1980) .
< اعتداءات في استراليا
في سنة 2012 ادعى تقرير صادر عن شرطة ولاية فكتوريا ان حوالي 40 شخصاً اقدموا على الانتحار تعرضوا سابقاً للاعتداء الجنسي عليهم من قبل رجال دين. لكن الشرطة تراجعت فيما بعد عن هذه الادعاءات . وظهرت اصوات تنادي باجراء تحقيق مستقل في ظاهرة الاعتداء على الاطفال في استراليا. فانشأت جوليا غيلارد سنة 2012 المفوضية الملكية للتحقيق في هذه الظاهرة المثيرة. ورحب اساقفة الكنيسة الكاثوليكية بهذه المفوضية متعهدين التعاون معها.
وفي سنة 2017 اصدرت المفوضية تقريراً حول الاعتداءات الجنسية داخل المؤسسات الكنسية. وكشف التقرير ان 7 بالمئة من رجال الدين الاستراليين بين سنة 1950 و2009 اتهموا بالإساءة الى الاطفال وان سجلات القضايا المطروحة على المفوضية بلغ عدد الشكاوى فيها 4،444 شكوى مرتبطة بسوء المعاملة او الاعتداء الجنسي على اطفال، وان بعض المؤسسات التعليمية الكاثوليكية لديها نسبة 40،4 بالمئة من المعتدين. واتهم التقرير الكنيسة الكاثوليكية انها مقصرة في معالجة هذه الظاهرة وفي اتخاذ التدابير الملائمة للحد من استمرارها، وانه حسب ادعاء احد اعضاء المفوضية Gail Furness كان يجرى معاقبة الاطفال او نقل المعتدي للقيام بمهام في رعايا او ابرشيات اخرى، دون ابلاغ الابرشيات حولاسباب نقل الكهنة والرهبان والراهبات. مما يفسح لهم المجال للاستمرار في اعتداءات.
ويذكر التقرير ان ما يزيد على الفي شخص من كهنة ورهبان وموظفين يتهمهم البعض انهم قاموا بأعمال الاعتداء. وتقوم المفوضية بالتحقيق بالقوانين والسياسات المعتمدة داخل الكنيسة التي تحول دون معالجة هذه الظاهرة ولا تضمن سلامة الاطفال فيها. واورد التقرير لائحة باسماء المؤسسات التعليمية وبنسبة الاعتداءات فيها خلال السنوات التي يطالها التحقيق ولا تقتصر تهمة الاعتداءات على الاعتداء الجنسي بل تضم اتهامات اخرى، منها سوء المعاملة والاهمال والقساوة وامور اخرى تدخل في خانة الاساءة الى الاطفال.
< كاهن بدعوة الهية ام برغبة انسانية؟
مهما تكن المعلومات الواردة في تقرير المفوضية هي موضوعية او مجردة، ومهما حملت وسائل الاعلام من مشاعر الحقد على الكنيسة بسبب سوء سلوك بعض الاكليروس، تطرح هذه العلومات تساؤلات عديدة حول سر الكهنوت ومدى التزام الكهنة بالنذورات والامانات والدور الذي كرسوا انفسهم للقيام به في خدمة المؤمنين.
ولا يختلف شخصان ان رجل الدين، رغم كونه انساناً ضعيفاً، هو في نظر المؤمنين، مصدر ثقة واجلال ومثالاً اعلى وقدوة يحتذى بها. لقد منح بفعل التكريس سلطاناً وقدرة، رغم ضعفة البشرى، على تتميم الاسرار والحل والربط في الامور الايمانية، ونقل رسالة المسيح الخلاصية الى العالم…
بالامس حذر اسقف سابق الملكة اليزابيت ان الكنيسة في بريطانيا تضمحل. في اوروبا، خلت الكنائس من المؤمنين وندر المصلون وتحول معظم رجال الدين الى عاطلين عن العمل. الكنيسة الكاثوليكية في استراليا اصبحت تعتمد على الاثنيين من الكاثوليك الذين لا يزالون يحافظون على بذور الإيمان في عائلاتهم. كل هذه التحولات تحدث منذ عقود، لأن روح العالم حلت مكان روح الله في الكنيسة، واستبدل بعض الكهنة والاساقفة السلطان الذي اعطى لهم بسلطان آخر لا يمت الى المسيح المصلوب بشيء.
التعديات على الاطفال هو وجه واحد من وجود الفساد الذي ضرب بعض المؤسسات ورجال الدين.
فعندما يصبح الكهنوت هدفاً انسانياً تغيب عنه الدعوة الالهية يغيب الله عن الجماعة التي يخدمها الكهنة. وعندما تسيطر الانانية ويغيب الحب المجرد من حياة الكاهن ويحل مكانه الوصولية ومساعي الترقي واستغلال مشاعر الاحترام التي يكنها المؤمنون لتحقيق اهداف بعيدة عن سر الكهنوت والنذورات الرهبانية يصبح كل شيء مباح لديهم. ألم يوصي الرب بعدم التشكيك والإساءة الى الاطفال؟ ألم يدعونا ان نكون ابرياء مثلهم. ألم يذكرنا اننا لسنا من هذا العالم ويجب الا نهتم بأمور الدنيا؟
بعض الكهنة حولوا هذه الدعوة الى مهنة، وآخرون استفادوا من محبة وتقوى الناس لجمع الاموال… البعض، ضربت عقولهم مشاعر الغرور وحب الوصول، فتعاهدوا مع «الشرير» لتحقيق ذلك.
مَن يتناسى ان المسيح هو نور العالم واكتفى بروح العالم على حساب من هو الطريق والحق والحياة… يسمح لنفسه بارتكاب كل الشنائع والفظائع والإساءات، حتى ضد الاطفال الابرياء. وعندما يتحول العمل الرسولي والليتورجي الى مجرد تقليد، يصبح الإيمان جثة مائتة لا حياة فيها وعندما يغيب روح الله من الهيكل تحل فيه روح الشرير.
فالى اين يقود رعاة الكنيسة القطيع الصغير الذي إئتمنوا عليه؟؟
في احدى رسائلها تدعو العذراء مريم الكهنة الى الاقتداء برسل المسيح، لأنه لا بد ان نكون كاملين كما ان اباكم السماوي هو كامل، وتدرك العذراء صعوبة الازمنة، لذا تطالب الكهنة ان يكونوا رسل للازمنة الاخيرة، وان يحملوا نور الانجيل ورسالته الى العالم، وألا يتلهوا بأعمال شيطانية.
وفي رسالة الى الأب غوربي تدعو ان يكرّس الكهنة الشبان انفسهم لها لأن الفساد سيعم الكنيسة. وتصف هؤلاء المفسدين داخل الكنيسة «بالحيوانات السود».
نمارس كمسيحيين كاثوليك وارثوذكس سر الاعتراف، ونقوم بذلك للتجدّد الروحي.. باعتقادي انه يجب على بعض الكهنة ان يقوموا بالاعتراف العلني عن جميع الممارسات الخاطئة التي اساءت الى الكنيسة وزادت من ألم المسيح وتبذير المواهب وافراغ الكنائس من المؤمنين.
صحيح ان السيد المسيح دعا الى عدم الخوف لأنه «غلب العالم» لكن علينا اولاً ان نخرج روح العالم من انفسنا وان نعود الى حياة الزهد والتجرّد عن العالم كما فعلت الجماعات المسيحية الاولى. فنعود الى رؤية المسيح في وجوه كل الناس، خاصة في عيون الاطفال. لأن من يسيء اليهم، الافضل ان يربط عنقه بحجر ويرمى بالبحر… فان فسد الملح فبماذا يملح…؟؟
من اعطي الكثير يطلب منه الكثير.
Pierre@eltelegraph.com