من اهم مزايا الانسان القدرة على التكيّف.
هذه الصفة تخفّف من المعاناة وتوفّر حداًً ادنى من الاستقرار ومتابعة الحياة بأقل مجهود ممكن
وهنا يستحق الشعب اللبناني جائزة غينيس بالقدرة على التكيّف تضاف الى جوائز اخرى اقل اهمية، لأنها لا تتخطى البطن، مثل لقب افضل بلد في العالم للأطعمة، واضخم صحن حمص، واكبر وجبة تبولة، واجمل شاب في العالم، وغيره من الألقاب التي تدخل في علم التخدير القومي المبرمج.
لقد اثبتت التجارب ان اللبناني هو ايضاً ناجح للغاية في حسن التكيّف ويستحق اكثر من جائزة.
فاللبنانيون تكيّفوا منذ ما قبل الاستقلال مع حرية تحديد الوطن، كل فريق وطائفة على مزاجه، رغم ان البعض لا يزالون يبحثون عن اطر جديدة لهذا الوطن الضائع بين التناقضات شرقاً وغرباً…
وتكيّف اللبنانيون مع مصالح الخارج على حساب مصلحة الوطن، خاصة اذا ما توافقت مصالحهم الخاصة مع التزلم للخارج. لقد ألفوا هذا النمط من التعامل طالما ان الزعامات اختصرت الوطن واحتكرت القرارات وهي سعيدة بتمثيل المواطنين الذين منحوها صكّ براءة مسبقة والبسوا كل واحدة عباءة تمثيلهم… وتكيّف اللبنانيون مع دور التبجيل للزعامات والتصفيق واطلاق الشعارات: بالدم نفديك.
واصبحت اولوية الزعامات اهم بكثير من مصلحة الناس والوطن… اللبنانيون سعيدون بهذا الواقع.
واصبح تقليداً ان يرتبط اللبنانيون بلبنان من خلال طوائفهم ومذاهبهم وعائلاتهم وقراهم وحتى الاحياء الضيقة التي يعيشون فيها. والمواقف الوطنية لديهم تنطلق من سلامة الحي وشرف العائلة وامن البلدة وصيانة الزعيم وازدهار الطائفة… ولا ضيم ان باتت العائلة دون عشاء او عجزت عن دفع اقساط المدارس وفواتير الطبابة… أيعقل ان نخترق التقاليد والاعراف او ان نشذ عما هو مألوف؟؟ بالطبع لا… فالجميع في لبنان «يسوقون مع السوق» وكرامة الناس ألا يغضبوا اصحاب المعالي واسياد الاحياء الضيقة.
وتكيّف اللبنانيون مع سياسة التكاذب واكتفوا بسهرة في ملهى او سكرة على نبع ماء وفاخروا ان «المازات اللبنانية» هي افضل ما يقدم على موائدهم
نعم اكتفى اللبنانيون بالتكاذب دون السعي لتطوير التعايش فيما بينهم ليؤكدوا ان لبنان هو وطن نهائي للجميع وعليهم جميعاً ان يعملوا لبناء وازدهار وانماء الوطن، شعباً وقوانين وهوية قبل بناء الحجر.
نعم. اللبناني بارع في التكيّف.
لقد تكيّف مع الاحتلال السوري وتكيّف مع دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت. وتكيّف مع الايراني والسعودي والاميركي والانكليزي والفرنسي وقبل بوصاية وحماية كل منهم ولو تضاربت الاهداف وتعارضت مع مصلحة الوطن.
واليوم يتكيّف اللبناني بارتياح مع التجديد للمجلس النيابي مرة واثنتين واكثر. ولا مانع في ذلك فالنواب الذي اختصروا الشعب دون ان يعكسوا اهدافه ويحققوا آماله، وتمنعوا عن القيام بواجباتهم القانونية، تارة لخطورة الاوضاع في دول الجوار ولتأزمها في الداخل، او لصعوبة الاتفاق على قانون انتخابات جديد يحفظ مواقعهم ويحمي مصالحهم… فلا مانع من التجديد. لقد ألف اللبنانيون ذلك واعتادوا على تلزيم قراراتهم للآخرين.
واعتاد اللبنانيون على رؤية «الزبالة» وروائح القمامة وانتشار الاوبئة. واعتادوا على تشريع الفساد انطلاقاً من قمة هرم التركيبة السياسية الاجتماعية. كما اعتادوا على مخالفة كل القوانين التي وضعت لحمايتهم ولسلامتهم: من السير على الطرقات الى حق المواطنة وما يرافقها من حقوق وواجبات الى القدرة على تحقيق الذات الانسانية وهي موهبة الهية لا تنزع ولا تدفن لئلا تقتل صاحبها.
نعم اعتاد اللبنانيون على الفراغ. فراغ في الرئاسة الاولى، ولا ضيم في ذلك طالما ان لديهم رؤساً كثيرة تقودهم كالقطعان.
المضحك المبكي هو قبولهم بالاعذار التي يقذف بها نواب الأمة المواطنين لتبرير هذا التقاعص القاتل: هناك خلاف سعودي سوري وتضارب في المواقف بين دول الخليج وايران، وخلاف سني شيعي وعجز مسيحي وعدم رغبة دولية.. ونواب الأمة ينتظرون معالجة مشاكل المنطقة ليقرروا هوية رئيس البلاد.
بكل بساطة، تخلى نواب الأمة عن حق تمثيل الشعب اللبناني بعد ان ربطوا قراراتهم ومواقفهم بقرارات خارجية، ولم يخجلوا من الاعلان عن ذلك واعادة التجديد للمجلس وحتى المطالبة بزيادة الاجور.
نعم، ألف اللبنانيون تفريغ الدولة من مقوماتها ومؤسساتها، وكأنهم يستعدون لتنفيذ خطوات جديدة تنهي الصيغة والتعايش وتعيد تقسيم البلاد.
ما يفاجئ ويصدم هو حالة عدم التفاعل حيال هذا الوضع المأساوي وكل التهديدات التي قد تطيح بالوطن.
لقد تناسى اللبنانيون كيفية التظاهر وتناسوا المظاهرات التي كانت تعطل البلاد اكثر من مرة في الاسبوع. كان اللبنانيون ينزلون الى الشوارع لدعم المقاومة الفلسطينية ويتظاهرون كلما قتل فدائي او ارهابي حسب المفاهيم الجديدة. تظاهروا كلما خطب الرئيس عبد الناصر او قتل مواطن عربي لسبب ما…
لم يتظاهر اللبنانيون تحت شعار «لبنان اولاً» ولم يتظاهروا للتعبير عن استيائهم لذبح الوطن بأسره… لم يتظاهروا للفراغ في الرئاسة الاولى ولحكم الاقلية الفاسدة وتملكها لكل القرارات…!!
ربما هو اليأس، وربما هو حسن التكيّف او ربما هو القبول بتسليم القرارات الوطنية المصيرية للارادة الخارجية بدعم داخلي… اللبنانيون هم سجناء اليوم ويحسنون التكيّف مع هذه الوضعية. انهم سجناء الافكار والقرارات التي تتحكم بقدراتهم العقلية التي خاف «بن غوريون» ان تتفتح.
لقد تناسى اللبنانيون ان لهم حقوق طبيعية كناس وكمواطنين، وان العقد الاجتماعي يمنحهم الحق بالحياة الكريمة.. حق التعبير، حق الحرية والحق ان يكونوا قادرين على العيش القيم الانسانية في وطن يضمن كل هذه الحقوق ليتمكن من الاستمرار والازدهار… لقد انكر اللبنانيون وطنهم وقبلوا بالفراغ حكماً بديلاً.
ألفوا الفراغ وهم يحسنون التكيّف معه.. حمى الله لبنان من اهله اولاً…
اللبنانيون و… التكيّف مع الفراغ
Related Posts
وباء كورونا والحرب العالمية الثالثة