بقلم بيار سمعان
ليس خفياً ان اللبنانيين منقسمون ومشرذمون ليس فقط كطوائف ومذاهب واحزاب وجماعات .. بل كمواطنين، ابناء قرى وعوائل ضمن البوتقة الواحدة.
انهم منقسمون حول مفاهيم الوطنية وتصورهم لمستقبل لبنان، كما هم مختلفون على الحكومات والوظائف وتوزيع الحصص والغنائم وخيرات البلد..
احزاب وتكتلات تنمو على حساب الدولة، لدرجة ان المراقب يتساءل كيف يستمر ويتحرّك وينمو هذا الوطن الصغير، العجيب الذي لا يزال يزدهر بقوة غير اعتيادية وبقدرة قد تكون عجائبية !!!
غريب امر هذا البلد الذي لا يزال يٌعتبر درة الشرق، باريس العرب ومحجة ملايين السواح واللبنانيين المنتشرين في اصقاع العالم.. فما هو القاسم المشترك بين اللبنانيين وما يجمعهم في وقت الشدّة والازمات والامراض والمصائب والمحن والتجارب؟ من يقربهم الى بعض ايام الفرح والنجاحات والاعياد؟؟
مَن يجمع شملهم للدعاء والصلاة والتوسل وطلب المعونة في امر ما والمساعدة في تخطي معضلة او شفاء من مرض و..و..و..؟؟
انها بكل بساطة مريم العذراء او «ستنا مريم» والسيدة العذراء.. سيدة لبنان وملكة جميع اللبنانيين مسيحيين ومسلمين ودروز وعلويين…
لبنان ومريم اسمان مترابطان في عقول وقلوب وايمان كل اللبنانيين، فصحّت نبوءة أشعيا: «مجد لبنان أعطى لها» وقد نقول انها اعطت المجد للبنان الغني بإيمان ابنائه، رغم كل المطبات والشوائب وشجار الصغار للسيطرة وامتلاك زمام امور هذا الوطن المتجذّر في التاريخ العميق وبالايمان ليصبح اكبر من ابنائه ويتحول امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، يردد ابناؤه اينما حلّوا: «ارتفعت كالأرز في لبنان وكالسرو في جبال حرمون» (سي 24/13)
منذ زمن بعيد، تكرّم العذراء تكريماً حاراً في لبنان، يشارك فيه حتى غير المسيحيين.
فالمسلمون والدروز يكرمون ايضاً مريم ام عيسى، وفي اشهر المزارات المريمية، يلتقي اللبنانيون من مختلف الطوائف والديانات (ما عدا اليهود) من اجل الصلاة والابتهال للعذراء مريم.
في لبنان، بلد الـ 10452 كلم مربع يوجد ثلاثمائة كنيسة من مختلف الطوائف تحمل اسم مريم العذراء، ستون منها تجتذب الزوار من الاماكن المجاورة وحتى من سائر اطراف البلاد. وان اكثر من ثلاثة آلاف مذبح مكرّس للسيدة العذراء.
وتكريم العذراء يتسم بطابع خاص، من تقبيل الايقونات والصور، وتكرار السجدات، واضاءة الشموع واحراق البخور وسكب العطور والتبرع بالمال، ودق الاجراس وتنوير الكنائس والمزارات الى صلاة الوردية.
واذا وقع عيد العذراء في مقامه ، فيتوافد سكان المنطقة الى المزار، لا المسيحيون وحدهم، بل المسلمون، سنيون وشيعة وكذلك الدروز والعلويون. يأتون ليوفوا نذورهم، ويقيموا الصلوات طالبين شفاعة مريم ومتلاقين بروح اخوية على اقدام «سيدة لبنان» التي يعتبرها الجميع سيدتهم ومريم هي دائمة الحضور في حياة جميع اللبنانيين، في حياتهم العادية، يحفظون في احدى زوايا قلوبهم «سلاماً لمريم في صلاتهم ودعائهم، «مريم» حاضرة في المخاطر والنكبات الخاصة والوطنية يرتفع الدعاء الى مريم.
نحن اليوم اذ نلتفل بذكرى صعود العذراء الى السماء نلتجئ اليها طالبين شفاعتها لكي يستعيد وطنها الذي تحب سلامه وامنه وازدهار الايمان والمحبة فيه، من قانا الجليل حتى ما بعد ارز الرب. من سيدة إيليج الى سيدة البلمند والنورية وبكركي، ومن سيدة قنوبين، صعوداً الى سيدة الحصن وسيدة بشوات حتى سيدة النجاة والمطلة، الى سيدة التعزية وسيدة لبنان في حريصا.. كل هذه الكنائس والأماكن اصبحت ايقونات يحملها اللبنانيون في قلوبهم وترحالهم.
ان مدى تعلّق جميع اللبنانيين بالسيدة العذراء ارزتهم الخالدة ومعونتهم في الشدة، هي القوة الوحيدة المتبقية التي لا تزال توحّد وتجمع اللبنانين .
فإن غابت مريم، فقد لبناني سر وحدته وكيانه ومسحة البركة والنعمة فيه ويغيب الله عنه ويفقد كيانه كرسالة انسانية مميزة، رسالة التعايش والحوار ولقاء الناس في عمل ايماني يومي ومتفاعل بين الانسان والارض والله.
وفي الختام نردّد مع الملائكة: «يا مريم، ان الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين…» (آل عمران 41) فاحفظي لبنان، الوطن الذي احببتٍ لأنك من جباله أتيت، وانت حاميته في كل المحن وعلى مدى العصور.
pierre@eltelegraph.com