أمان السيد

لعل أبا الطيب المتنبي حين تغنّى بحلب، فقال: حلب قصدنا وأنت السبيل، كان ينطلق بشفافية الشاعر العاشق في بوحه، فكيف به لو درى بأن حلب حقا قد تجدد أن تكون القصد،  والقبلة لطامعين أشد شراهة في هذا الزمان سخروها مهوى لخبثهم ولمصائدهم، وتجدد أن تكون أسطورة سورية التي لا تقهر في خضم أحداث الثورة السورية على الظلم والجور، وخرس العالم.
حلب في خيال السوريين تحرك أكثر من معنى، وصورة، وفي نبضهم تستثيرعبقا يتضافر تاريخه ليحيك من قلعتها أسطورة تفوق كل الأساطير ينشرها البياض على شرفاتها تراتيل يصل دعاؤها السماء السابعة.
حلب التي تعتبر من أقدم مدن العالم المأهولة – إن لم تكن أقدمها- والتي توالى عليها الطامعون والغازون من الفرس والمغول وغيرهم، وحلب التي تعايش على أرضها بشر ذوو انتماءات دينية متباينة، وكانوا سببا في تحضرها وخصبها وازدهارها، حلب التي احترمها كثير من الفاتحين فبنوا وشيدوا فيها، واستذلها كثير من الغزاة فهدموا وكسروا وعاثوا فسادا، ما تزال تنبئنا جدرانها وأوابدها أن الزلازل الطبيعية، والعدوّة التي شوهتها يوما لم تستطع أن تؤثر في بقائها حتى اليوم عنوانا لعراقتها وطيب محتدها..
حلب التي تتحد عليها قوى شرّ  تتسيد العالم المعاصر ابتداء بجنود لدولة تعتبر حلب إحدى أهم مدنها، وزعيم لم يتعهد أمانة يستأمنها الوطن لمن يتزعمونه، فارتأى أن يختار المجرمين السابقين له قدوة، ولم يكتف، فاستعان بقوى ملغاة الضمائر من بطائن الأرض المختلفة ليجددوا غزوها، وليحطموا كرامتها، وليهتكوا أستارها أمام الملأ، حلب المدينة التي يتعرض أهلها للحصار، وللتجويع في سياسة لإركاع كل من عليها من بشر وحجرعبر مخطط يوثّق له أنه كابوس لا تُنبته إلا مخيلات المتغطرسين الذين يغيب عن أذهانهم أن المدينة التاريخية قد وصلت إلينا رغم ما تعرضت إليه في أسفار الزمان، وانطمس أمام مخيلاتهم الرعناء أن الأرض كما هي تحبل بالشر، فهي تلقح الإصرار والثبات على القيم لإحقاق الحق.
يحكي الحاكون أن نساء حلب جميلات بأحاديثهن التي يغلب عليها الدلال، وبوجوههن الصبيحة التي تمتزج فيها حلاوة الروح بالعقل، وبمهارات الأنثى السورية التي تبدأ من رعاية البيت والأسرة لتنتهي بالتفاعل مع البيئة المحيطة حضورا علميا وعمليا، ويحكى أن بلابل حلب ونهرها قويق، وعنّاب أشجارها قد سكبوا في حناجر أهلها فضتهم، فانفسحت ميادين من السباق والتنافس لا تنفد في جمال الصوت ورخامته، ويحكون أن حارات حلب وأزقتها انعكاس عظيم لأصالة، وتراث، وصناعة، وابتكارات تُنبي بها جدرانها، وطرقاتها في أبدع ما يسرد فيما مر على هذه المدينة من أحداث جليلية، وعظماء وقادة وشعراء، فتصدر شاعرها « أبو فراس الحمداني» السبيل ليزاوج تمثاله بين المقصد والغاية اللتين ذكرهما المتنبي، والخضرة والجمال في حديقة « السبيل»  التي أصبح لها ميسما.
ويحكون عن قلعتها التي لم يُستطع اختراقها بأقوى القوى، ولـُجِئ إلى الحيلة لتسلقها في غابر الزمان ، ويحكى عن حلواها، ورائحة عطورها وصابونها، ويحكون ويحكون، ويتقولون ويتقولون، ولكنهم قد غفلوا عبر وطيس الشر والنيران والدخان أن حلب ستنبت الدهشة في أكف أطفال يُظنّ بهم التناثر في ساحات اللعب خالي الأذهان مما يدبره الكبار ويتآمرون عليه، أطفال حلب الذين هم منذ السنوات الخمس وتتابعها مغمورون في ثنايا الحرب السورية يتعلمون من قصف مدارسهم وحجرات دراستهم، وقصف المساجد التي يصلون فيها مع أهليهم المعروفين بالمواظبة عليها والاستماع إلى خطب المفكرين والعلماء، يتعلمون من النار ومن الطائرات الأليفة، والغريبة التي تغزوهم من سماءات طفولتهم كيف سيسلسلون التاريخ، ويقلبون  ظهرالمجن، ويثبتون أنهم أبناء المدينة الأصيلة التي أصرت على الحياة في القرون السابقة، يتعلمون وهم يلعبون حول  بقايا قبر» هنانو» زعيم حلب الذي رفض الانفصال عن دمشق الأم ووقف في وجه المحتل الفرنسي في سنوات احتلاله لها، فحولوا الدواليب التي كانت وسيلة لهو لهم في أيام الصفاء إلى سلاح دفاع يلتصق بهم.
ابتكارات الطفل الحلبي الآن ستؤدي دورا يحسب له حساب حين تغزى طفولته، ابتكارات الطفل السوري المجروح والمتألم الذي يغلي به الظلم، فيسترجع طفولة تربى عليها، يساند الرجال، ويطبق الدروس التي تعلمها من الآباء والأجداد حين لقنوه أن الصنعة أمان من الفقر، وإذ به يضيف إليها، وسلاح للبقاء.
دواليب تصرخ بها أنامله الغضة.. لا لجبروتكم، ولا للسماء التي تقتلوننا منها.. السماء ستبقى زرقاء كما عهدناها، ونجومها خلقت لنتبارى بمتابعتها وعدها..
تلك الدروس المستحدثة تستنسخها اليوم جدران القلعة المراقبة من شموخها، ومع أطفال سورية يصدح المتنبي.. حلب قصدنا وأنت السبيل.