طوني عيسى
في عشيّة الفطر، لم تجد «داعش» ما تستهدفه سوى المسجد النبوي وقبر الرسول في المدينة المنوّرة. وهكذا قدّمت دليلاً جديداً على أنها ليست تنظيماً «إسلامياً» ولا تمتّ إلى الإسلام إلّا بالشعارات التي ترفعها مطيّةً لأعمالها، وأنها في العمق ليست سوى شركة استخبارية مساهمة، أو بندقية برسم الإيجار، تمَّ خلقُها لضرب المسلمين والعرب.
إذا كانت «داعش» تَرفع لواء الدفاع عن المسلمين- السُنّة تحديداً- فيجدر التنويه بأنّ الغالبية الساحقة من ضحايا جرائم «داعش» هم من المواطنين السُنّة في سوريا والعراق، إضافة إلى سنّة عرب في تركيا ومصر وليبيا وتونس والأردن ولبنان وسواها.
وفي الدرجة الثانية، ضحايا «داعش» هم من العرب الشيعة والمسيحيين والأزيديّين والأكراد. وفي الدرجة الثالثة هم من مسيحيّي أوروبا. ويمكن القول إنّ إرهاب «داعش»، المستمر منذ 5 سنوات، لم يشمل دولاً إقليمية ودولية عدّة، ولا سيما إسرائيل المصنَّفة تقليدياً معتدية على مقدسات إسلامية في فلسطين.
لم تستهلك «داعش» أيّاً من انتحاريّيها في المسجد الأقصى وقبّة الصخرة في القدس، عشيّة الفطر، على رغم القرار الذي اتّخذه بنيامين نتنياهو في اليوم عينه بتوسيع رقعة المستوطنات. ووَفّرت انتحاريّيها لتستهلكهم في حرم المسجد النبوي ومحيط قبر الرسول في المدينة المنوّرة. وهذا الخيار من شأنه أن يضيء على الكثير.
لو قُيِّض لـ»داعش» أن تقيم دولتها الإسلامية العالمية، لكانت عاصمتها مكة والمدينة المنورة. فلماذا، إذاً، إصرار هذا التنظيم على ضرب رمزية هذه العاصمة، عشيّة الفطر؟ وفي الأسابيع الأخيرة، ضربت «داعش» في أوروبا وتركيا ودول عربية عدة، فلماذا يتمّ استهداف المسلمين والعرب أصحاب القضية في الدفاع عن مقدسات القدس؟ ولماذا استهداف مسيحيّي أوروبا الأكثر تعاطفاً مع المسلمين والعرب؟
واضح أنّ «داعش» تستفيد من التراخي المقصود أو غير المقصود الذي يُبديه الطرفان الوحيدان المعنيان بمواجهة «داعش»:
1- تراخي القوى الإقليمية والدولية في القضاء عسكرياً على هذا التنظيم، كل منها لغايات تسعى إلى تحقيقها.
2- تراخي غالبية المرجعيات الدينية الإسلامية الكبرى في مواجهة الفكر المتطرف الذي تسوِّقه «داعش» في شكل مشبوه.
فعلى رغم المخاوف التي تعمّ العالم من عمليات إرهابية تقوم بها «داعش»، لا يبدو التحالف الدولي المولَج ضربها في صدد تنفيذ ضربات فعلية تؤدي إلى القضاء عليها. وما قام به التحالف حتى اليوم، بقيادة الأميركيين، لم يكن سوى عملية ترسيم للحدود بين المتصارعين على الأرض. فقد منع التحالف سيطرة «داعش» على المنطقة الكردية في العراق، ومنعه من التقدُّم نحو المناطق السنّية والعلوية في سوريا.
أما القوى الإسلامية والعربية المتَّهمة بدعم «داعش» في فترات مختلفة، بالسلاح والمال وتمرير الرجال، من أجل توازن الرعب في وجه الشيعة والمحور الإيراني، فقد اكتشفت أنّ سحر «داعش» انقلب على الساحر، وأنّ هناك غموضاً حقيقياً في هوية «داعش» وطبيعتها، وأنّ هناك تشعُّباً في ارتباطاتها.
ولكن، في مقابل هذا التقصير في المواجهة على المستوى العسكري، يجدر التفكير في التقصير على المستوى الأشدّ حساسية وخطراً، أي في المواجهة الدينية – العقيدية الفكرية. وهنا يبدو جلياً دور ما يسمّى «الاعتدال الإسلامي».
حتى اليوم، تبدو مواجهة المرجعيات الدينية الإسلامية لـ»داعش» شكلية ولا تستهدف القضاء عليها فكرياً، تماماً كما هي مواجهة التحالف الدولي شكلية ولا تستهدف القضاء على التنظيم عسكرياً! فهذه المرجعيات، أي الأئمّة والمفتين في المملكة العربية السعودية وسواها، ولا سيما الأزهر، لم يكن دورهم في مواجهة فكر «داعش» المتطرّف في حجم المسؤولية، أو في الحجم الموازي لهجمة «داعش».
وغالباً ما تكتفي هذه المرجعيات بإدانة لفظية لأعمال «داعش»، كما أيّ طرف آخر، بالقول إنّ ما تقوم به يناقض ما أوصى به الدين الحنيف، وانها تشوّه صورة هذا الدين الحقيقية. ولكن، حتى اليوم، لم تذهب هذه المرجعيات إلى مواجهة حقيقية مع «داعش»، تستند إلى الشريعة، أي نصوص القرآن والسنّة النبوية.
فالأسس العقيدية التي تستند إليها «داعش» ليست هشّة، بل هي قائمة على آيات قرآنية وأحاديث نبوية، أي على ركائز حقيقية يقوم عليها الدين الإسلامي. فإذا كان تفسير «داعش» للآيات والأحاديث مشوَّهاً ومشبوهاً، فلماذا لا تضطلع المراجع الفقهية الإسلامية بدورها الحقيقي في الدفاع عن الدين الحنيف ومنع «داعش» وسائر الجماعات المتطرفة من تشويه صورته وتنفيذ مؤامرة عليه؟
وهذه المراجع، والأزهر في مقدمها، التي تقيم الدنيا وتقعدها احتجاجاً على رسم كاريكاتوري مُسيء للإسلام ورسوله في الغرب، لماذا تسكت على الإساءات الحقيقية لأصول الإسلام والمبادئ التي دعا إليها الرسول؟
في بعض الأوساط الغربية، هناك اعتقاد بأنّ «داعش» تستند إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وأنّ علماء الإسلام عاجزون عن نقض تفسيرات «داعش» لها لأنّ هذه التفسيرات صحيحة! وهذه المقولة ربما تسوِّقها أوساط معادية للإسلام، لكنّ فقهاء الإسلام أنفسهم يساهمون في تكريسها بسكوتهم وعدم تكليف أنفسهم مسؤولية التفسير الواعي وغير المجتزأ.
وعلى رغم المواقف الانفتاحية والاعتدالية التي أطلقها الأزهر في السنوات الأخيرة، فإنّ هناك أوساطاً دينية وغير دينية إسلامية تأخذ عليه عدم المبادرة العملية إلى الإمساك بزمام الملف المتفجّر الذي تستغله «داعش» وسائر القوى المصنّفة «متطرفة» دينياً.
فقد دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مطلع العام الفائت، في خطاب تعمَّد إلقاءه في جامعة الأزهر بمناسبة عيد المولد النبوي، إلى ثورة إصلاحية في الدين الإسلامي، وقال: «لا يمكن أن يكون هذا الفكر الديني المقدّس، المتضمّن نصوصاً وأفكاراً تمّ تقديسها منذ مئات السنين». وهذا ما يؤدي عملياً إلى تنقية الدين الحنيف من المفاهيم التي أُلصِقت به، ومنها العنف.
لكنّ شيخ الأزهر أحمد الطيِّب رَدّ عليه سريعاً، إذ هو يحاذر مراجعة القراءة التقليدية للنص، وقد وصف كل دعوة إلى الثورة والإصلاح الديني- بما فيها دعوة السيسي من دون أن يسمّيه- بأنها خبيثة وخطرة.
وهذا تحديداً ما يرتاح إليه ذوو التفسيرات المتطرّفة للنص، ومنهم «داعش». وفي معزل عمّا إذا كان السيسي أو سواه يرغبون في استثمار الإصلاح الديني سياسياً أو لا، فإنّ الحاجة ماسّة للاستجابة إلى دعوات الإصلاح من أي جهة أتت.
ففرصة القضاء فكرياً على «داعش» وأخواتها ونسيباتها أشدّ صعوبة من فرصة القضاء عليها عسكرياً، لأنّ جذور هذه الحالة الفكرية – العقيدية عميقة في التاريخ والجغرافيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا، فيما الحالة العسكرية ربما تكون مصطنعة وعابرة. وفي أي حال، هي تستند إلى الحالة الفكرية – العقيدية للاستمرار.
إنّ ما اصطُلِح على تسميته «الإسلام المتطرف» يَنهش جسد ما اصطُلِح على تسميته «الإسلام المعتدل» الذي يبقى صامتاً ولا يتحرك حتى للدفاع عن نفسه. والمطلوب من ذوي «الاعتدال الإسلامي» أن يُثبتوا أنهم ما زالوا على قيد الحياة… حتى الآن، وأن يقوموا بواجبهم في الدفاع عن «إسلامهم» قبل فوات الأوان… أللهم إذا كانوا فعلاً مؤمنين ومؤتمنين على رسالتهم.