اتخذت الحرب الارهابية على بلدة القاع طابعاً فائق الخطورة عندما تجاوزت الموجة الأولى التفجيرية التي استهدفت البلدة فجراً لتتجدد في موجة ثانية من الهجمات الانغماسية الاجرامية الدامية ولم تنجح في منعها كل الاجراءات العسكرية والامنية والاستنفارات الاهلية ولم يبق معها أي مجال للشك في ان القاع كانت هدفاً لمجازر تسلسلية هي اشرس ما تعرضت له منذ مجزرة العام 1978.
منذ ارتسمت خطوط المواجهة اللبنانية مع تداعيات الحرب السورية والقاع تقف عند خط المواجهة المتقدم وتتحسب مستنفرة لاستهدافها في أي لحظة. وتصاعدت حال استنفارها خصوصاً بعدما تضخم واقع منطقة مشاعات مشاريع القاع المتنازع عليها جغرافياً وعقارياً منذ القدم، الأمر الذي استتبع تنامي مخيمات اللاجئين والنازحين السوريين في هذه المنطقة الى حدود بالغة الخطورة لم يغال أبناء البلدة أمس الاول في وصفها بأنها باتت أقرب الى مخيم نهر بارد آخر بكل ما تختزنه من عوامل الخطورة في التلطي وراء اللاجئين لتدبير عمليات ارهابية. ومع ان هذا الواقع القلق الذي حاصر بلدة القاع تبدد الى حدود بعيدة في ظل تشدد الجيش في اجراءاته الاستباقية والدفاعية على طول الحدود اللبنانية – السورية كما في ظل يقظة أبناء القاع الدائمة، فان أحداً لم يتصور حجم الهجمة التي تعرضت لها البلدة فجر امس الاول عبر «معبر الموت» الذي أتاح لاربعة انتحاريين «انغماسيين» التسلل فجرا الى القاع لينتهي الأمر بهم الى تفجير انفسهم وايقاع خمسة شهداء و16 جريحاً من أبناء البلدة في مواجهة دامية اجمع الرأي الداخلي على انها افتدت لبنان بأسره من خلال شجاعة أبناء القاع في التصدي لها. أما المفارقة الدراماتيكية التي واكبت المجزرة التي أيقظت المخاوف من عودة لبنان هدفاً للاستهدافات الارهابية أسوة بالاردن الذي شهدت حدوده مع سوريا قبل فترة هجمات مماثلة فتمثلت في ان تفجير الانغماسيين الأربعة أنفسهم داخل القاع جاء عشية الذكرى الـ38 لمجزرة 28 حزيران 1978 التي شهدتها القاع وبلدات مسيحية أخرى في البقاع الشمالي وذهب ضحيتها 26 شاباً آنذاك. ومع ان ظروف المجزرة التي حصلت وهويات منفذيها ودوافعهم تختلف اختلافاً كبيراً مع ظروف مجزرة حزيران 1978، فإن ذلك لم يحجب واقع بلدة طبع قدرها بالوقوف تباعاً عند خطوط التضحية والمواجهة في ظل تآلب الظروف وثبات التحديات المصيرية التي تحاصرها.
في أي حال وأياً تكن الأهداف المحتملة التي حركت الانتحاريين الأربعة الى داخل القاع الساعة الرابعة فجر 27 حزيران 2016 وهي الأهداف التي أثارت سيلاً من التكهنات، فإن وقائع المجزرة لا يمكن ان تسقط الاحتمال الاول والاساسي لاستهداف القاع نفسها لمجموعة عوامل برزت من خلال وقائع الحدث الدموي. فالبلدة تشكل بواقعها الجغرافي اللصيق بالحدود اللبنانية – السورية وبواقع منطقة مشاريع القاع المثقل بانتشار مخيمات لأكثر من 17 الف لاجئ سوري هدفاً مغرياً للارهابيين. ثم ان انتشار الجيش في البلدة ومراكز تجمع العسكريين للانتقال بحافلات عسكرية الى مناطق اخرى في محيطها يشكل أيضاً هدفاً محتملاً قوياً للانتحاريين. أما الهدف الثالث المرجح جداً فهو ان القاع هي من أبرز البلدات ذات الغالبية المسيحية في المنطقة والتي تشكل بوابة أساسية الى الداخل البقاعي واللبناني. وأما العامل الذي اتكأ اليه البعض في ترجيح ان تكون الوجهة المحتملة للانتحاريين الأربعة أبعد من القاع نحو مناطق أخرى في الداخل، فيعود الى انها من المرات النادرة التي يدفع بها الارهابيون بأربعة انتحاريين دفعة واحدة الى عملية أو عمليات تفجير الأمر الذي يمكن ألا تكون القاع سوى محطة من محطات محاولتهم الانتقال الى مناطق أخرى.
لكن طابع المباغتة الذي نجح عبره الارهابيون في بلوغ القاع فجراً سيراً عبر البساتين ومشاريع القاع، انقلب فورا ًالى مواجهة دموية خاضها الأهالي معهم بعدما كشف أمرهم مواطن من آل مقلد قرب منزله. وحصلت مواجهات سريعة ومتعاقبة عمد عبرها الانتحاريون الى تفجير الأحزمة الناسفة التي كانوا يحملونها الأمر الذي أدى الى سقوط خمسة شهداء من أبناء البلدة واصابة 16 آخرين بجروح بعضهم في حال حرجة وقتل الانتحاريون الأربعة ولم يبق من اشلائهم الا رؤوسهم التي انفصلت عن أجسادهم وبقيت واضحة المعالم وذكر ان التحقيق أثبت الهوية السورية لثلاثة منهم فيما لم تعرف بعد هوية الرابع.
الموجة الليلية
أما المفاجأة الصاعقة، فبرزت قرابة العاشرة ليلاً عندما ضربت موجة ثانية من التفجيرات كنيسة مار الياس في القاع وساحة البلدية حيث كان الأهالي يحضرون لجنازة الضحايا امس الثلاثاء. وأكد رئيس بلدية القاع بشير مطر ان انتحاريين نفذا عمليتي تفجير قرب الكنيسة وكانا على دراجتين ناريتين، كما أشار الى حصول خمسة تفجيرات متعاقبة. وأفيد في المنطقة ان حال استنفار كبيرة شهدتها القاع وبلدات البقاع الشمالي بعدما ثبت ان مجموعات من الارهابيين الانتحاريين تغلغلت في المنطقة وانها تنفذ عملياتها بأسلوب مختلف تماماً عما كانت تتبعه التنظيمات الارهابية من خلال شن موجات متعاقبة على القاع. وقال مصدر أمني ان الموجة الثانية من التفجيرات لم توقع ضحايا وتحدث الأهالي عن اصابة خمسة مواطنين بجروح. وأقفل الجيش كل مداخل البلدة وطلب من المواطنين تجنب التجول، فيما قامت دوريات كثيفة بأعمال التفتيش عن ارهابيين آخرين. كما اتخذ محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر قراراً بمنع اللاجئين السوريين في بلدتي القاع ورأس بعلبك من التجول.
وكان قائد الجيش العماد جان قهوجي تفقد القاع بعد التفجيرات الصباحية وطمأن الى ان «لدى الجيش الارادة والقدرة الكاملتين على مواصلة محاربة هذا الارهاب الذي لا يميز في جرائمه الوحشية بين طائفة وأخرى»، مشدداً على ان «أي عمل ارهابي مهماً بلغ حجمه لن يؤثر اطلاقاً على قرار الجيش الحاسم في محاربة الارهاب وحماية لبنان».
وفي ردود الفعل الداخلية، استرعى الانتباه ترجيح رئيس حزب «القوات اللبنانية « سمير جعجع نهاراً ان «القاع لم تكن مستهدفة بل كان فيها انتحاريون يختبئون في انتظار أحد أو سيارة تنقلهم الى مكان آخر وان ابطال القاع توجهوا نحو الانتحاريين بانفسهم فخاف هؤلاء وبدأوا بتفجير أنفسهم». لكنه عاد ليلاً وأعلن عبر تلفزيون «ام تي في» ان تقديراته نهاراً لم تكن دقيقة وان المستهدف هو الجيش في القاع والقاع. وأكد ان هذه الحرب ستفشل بفعل بطولة الجيش والأهالي.
وفي ردود الفعل الخارجية أصدر الناطق باسم الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والشؤون الأمنية بياناً جاء فيه «ان الاتحاد الأوروبي سيستمر في دعم مؤسسات الدولة اللبنانية في جهودها الآيلة إلى المحافظة على الاستقرار وفي الوقوف إلى جانب لبنان في معركته ضد الإرهاب».
وندد وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط توبياس الوود بالتفجيرات الانتحارية في القاع، وتوجه بالتعازي والمؤاساة الى ذوي القتلى والجرحى. وأكد أن «المملكة المتحدة لا تزال ملتزمة بشدة دعم استقرار لبنان ومساندة القوى الأمنية لتعزيز الأمن في أرجاء البلاد».
مجلس الوزراء
وحضر الحدث الامني في القاع على طاولة الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء امس والمخصصة للوضع المالي. وأبلغت مصادر وزارية ان المجلس وقف دقيقة صمت حداداً على أرواح الشهداء واطّلع من رئيس الوزراء تمّام سلام على آخر المستجدات والتدابير الواجب إتخاذها على صعيد الامن، إما من خلال مجلس الامن المركزي وإما من خلال الاتصالات بين القادة الأمنيين.
كما ابلغ الوزراء الاجراءات الاغاثية التي اتخذت.
ولاحظت المصادر ان ما جرى في القاع يشبه ما جرى أخيراً على الحدود الجنوبية بين الاردن وسوريا وهو تعبير عن التضييق الذي يتعرض له تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة» ما يؤدي بهما الى فتح ثغرات لتخفيف الضغوط عليهما، لكن هذا الأمر لن يصل الى أي مكان. ولفتت الى ان لبنان بإمكاناته المتواضعة حقق نتائج إيجابية في مواجهة الارهاب الذي يضرب بقوة في المنطقة والعالم والذي من المرجح أن يواصل توجيه ضرباته في المدى المنظور.