بقلم بيار سمعان
عندما كانت والدته في ريعان العمر وحالمة ، نذرته لمار مطانيوس، قبل ان يكون…
ولما رزقت به بعد زواجها، دعته طوني.
وعندما خطا الخطوات الاولى ألبسته نذورات مار شربل واطلقت عليه صفة «الخوري الصغير…» هذا الشاب الطموح الذي منحه الله صوتاً جميلاً، كان كسائر الشباب: يطمح الى الشهرة، ويحلم احلاماً كبيرة…
اراد منذ شبابه ان يكون متيمزاً عن الآخرين، بعد ان رأي ان الله وهبه الصوت الجميل والقامة الممشوقة والطلة الحلوة والفسحة الزمنية لكي يصبح فناناً مشهوراً..
بدأ مشواره الفني يغني مع الرحابنة في الكورت الى جانب ملحم بركات وآخرين، وقام بأدوار ثانوية في مسرحيتين الى جانب فيروز. تعرف الى روميو لحود، فاعجب بصوته، وقدمه روميو بدوره الى المخرج سيمون اسمر.
فاز في استوديو الفن ورأى الاسمر فيه فناناً كبيراً ذا مستقبل باهر فطلب تغيير اسمه ليصبح مقبولاً في العالم العربي.. واستبدل طوني بـ ربيع…
لكن لم يتم هذا التغيير دون ردود فعل خاصة في المنزل، وبالنسبة للوالدة.
فمع ربيع ضاع طوني، وتلاشت النذورات،
وغاب «الخوري الصغير» من مخيلة الأم وبدأت بشائر الشهرة تقتل تمنيات الوالدة الدفينة.
غاب «طوني» وبرز «ربيع».
وبسرعة البرق، تصاعدت نجوميته وازدادت شعبيته على مساحة الوطن والعالم العربي بأسره وفي دنيا الانتشار اللبناني. وبدأ «ربيع» يتنقل من بلد الى آخر ومن مسرح الى مسرح ونادي ومربع ليلي.. يعيش امجاد الشهرة والثروة والمغامرات والاحلام الكبيرة.
لكن طوني لم يمت في داخله، فربيع كان قناعاً فنياً، شخصاً يتباهى بنفسه، اما طوني فهو الاصل وفي عجقة النجاحات، كان طوني يعود في سكون الليل ليطرق ضمير ربيع ويسأله باستمرار : وماذا بعد؟ لقد حققت الشهرة والمال واكتسبت اعجاب الملايين.. فماذا بعد؟؟
ومع وفاة اخيه سليم، مدير اعماله، عاد طوني مجدداً ليقلق راحه ربيع ويطرح عليه خيارات اخرى كانت نائمة في وجدان الفنان الشاب.
سنتان مضت، كان طوني يصارع خلالها ربيع.. فلجأ الشاب الحائر الى العزلة والتأمل والصلاة، وطلب الالهام من الروح القدس الذي كان دائماً حاضراً في حياته، رغم ضجيج الحياة وتضارب الاحلام والآمال الكبيرة…
بقي هذا الشاب منقطعاً عن العالم، يرفض الحفلات والاغاني.. ويصارع الشهرة التي عشقها وكرّس سنوات من شبابه لتحقيقها. وكان له ما شاء.. لكنه احس بالفراغ العميق لأسباب عدة . منها ما هو داخلي وبعضها يكاد يكون مجهولاً.
خلال تلك العزلة والصلوات جاءه صوت يقول له: اترك كل شيء واتبعني. انا اخترك قبل ان تكون.
عند سماع هذا النداء، انتعش طوني في داخله وكأنه وجد من يسانده، وذهب يسأل من يمسك بيده ويقوده نحو يسوع، كما امسكت والدته يديه عندما خطا الخطوات الاولى وهو يرتدي «لباس راهب صغير».
فجاءه الجواب: ان اردت ان تتبع المسيح، امامك خياران. اما ان تكون كاهن رعية متأهل، ان رغبت بذلك ، او ان تلتحق باحدى الرهبانيات اللبنانية، محافظاً على نذورات الانقطاع عن العالم، حافظاً الطاعة والعفة والفقر…
فاختار طوني الخيار الثاني، والتحق بدير كفيفان حيث قبل النذورات الاولى، ثم سيم كاهناً متعهداً ان يكرّس حياته وصوته ومواهبه لتمجيد الله ومحبة العذراء مريم التي اصبحت امه السماوية ، وهي كذلك منذ البدء، ولخدمة المؤمنين، وهم عطشى لمحبة الله، يبحثون عن الحق ويسمعون اصوات لا يفهمون معانيها.. وقد يساعدهم طوني المكرّس على ادراك اهميتها وضرورة الاصغاء اليها.
بعد اسبوع من وصوله الى استراليا، قصدت دير مار شربل على امل اجراء حديث معه. فجاء الرد صارماً منه ومن الأب جوزيف سليمان رئيس الدير: ابونا طوني لا يجري مقابلات . لقد اتصل به فلان وفلان.. ورفض ذلك… والأب طوني يصغي متابعاً عمله.
ثم استدرك الأب سليمان سائلاً: لماذا تريد اجراء حديث معه؟ اجبت: باعتقادي ان الأب طوني الخولي هو قدوة صالحة للشبيبة التي تبحث عن الله ولا تجده بالطرق والاماكن الصالحة. واختباراته الشخصية قد تساعد البعض خلال المحن التي يواجهونها. رفع الأب طوني الخولي نظره ولم ينطق بشيء.
ادركت في اعماقي ان الأب طوني الخولي قد تخلي فعلاً عن امجاد هذا العالم. فاللقاءات تذكره بلقاءات من نوع آخر، والشهرة التي تركها خارج غرفته عندما دخل دير كفيفان لا يريد ان يستعيدها بالوقوف امام الكاميرات واجراء المقابلات، لئلا يقع مجدداً في حب الشهرة ولو بأساليب جديدة.
واحسست ان الأب طوني الخولي يريد فعلاً الالتزام بتعهداته ونذوراته الرهبانية وهو يسعى، كالعديد من الكهنة والرهبان، الى خدمة المؤمنين بتجرد وبلوغ القداسة بالتواضع والصلاة وتكريس حياته واعماله لمجد الله.
لم اشعر بخيبة امل لأنه رفض اجراء مقابلة، لأن ما يضمره ويسعى الى تحقيقه هو اهم بكثير من تحقيق صحفي.
خرجت من دير مار شربل وانا افكر في اعماق نفسي واقارن واستعيد اسماء كهنة كثر مروا في حياتي. منهم من ترك اثراً طيباً في نفسي ومنهم من يتخذ الكهنوت مجرّد مهنة، او مكانة اجتماعية. فالدين من العوامل الأشد تأثيراً في الناس!!
تذكرت جدي الخوري حنا سمعان الذي امضى حوالي 80 سنة في خدمة المؤمنين، مطبقاً كلام الرب: مجاناً اخذتم فمجاناً اعطوا». كان يخدم تلاث قرى يتنقل من واحدة الى اخرى ليحتفل بالذبيحة الالهية فيها، يعمد ويعقد مراسم الزواج ويمشح المرضى دون مقابل…
وكانت امنيته ان يموت على مذبح الكنيسة وفي خدمة المؤمنين.
كما تذكرت الأب العلامة يوسف يمين المغرم بمحبة الله ولبنان والمدافع عن ايمانه المتجسد في لبنان الرسالة المميزة ولبنان الذي يعتبره «ارض وقف منذور لله…»
وتذكرت المطران عبده خليفة الذي عانى الأمرّين لاعادة جمع شمل الموارنة في استراليا، فواجه تحديات من الكنيسة الكاثوليكية ومن الهادفين للسيطرة على زمام الامور في الجالية والاستفادة من خيراتها… «ايمان وانماء» كان شعاره، فهو حافظ على الاولى ووضع الأسس لابرشية مزدهرة هي ما عليه الآن من نجاح ونمو وازدهار .
وجوه كهذه تطبع شخصيتك دون استئذان … كهنة ورهبان كرسوا حياتهم لمجد الله وخدمة المؤمنين… الا نصلي وندعو دائماً ان يمنحنا الله كهنة قديسين؟؟
لكن للأسف البعض يتخذ الكهنوت وسيلة لكسب الثروات واستغلال مشاعر الناس وتمسكهم بكنيستهم.
منهم من وضع القداسة جانباً بعد ان تحولت رسالتهم الى مجرد وسيلة… فالقداديس والجنانيز والاعراس. . هي لكسب المال وليس لكسب النفوس والغاية لديهم تبرّر كل وسيلة.
لقد تناسى البعض كلام السيد «الا تعبدوا ربين .. الله والمال» فجيروا كل امكانياتهم لتحقيق مآرب شخصية وبنوا كنوزاً وقصوراً لهم هنا على الارض على حساب الكنوز السماوية.
والبعض، للاسف الشديد استخدموا الكلمة المقدسة والروح القدس للوصول الى غاياتهم. ومنهم من اقسم يميناً مختلفاً وقبل تعاليم تتعارض مع الكتاب المقدس بغية الحصول على موقع او الترقي في مركز او ضمان استقرارهم البشري على حساب الولاء فقط للسيد المسيح.. فهو حذرنا ايضاً عندما قال: لا يمكن لأجير ان يخدم سيدين، لأنه يهمل الواحد على حساب الآخر…
البعض تناسوا ان المسيح هو نور العالم ولا احد في العالم قادر ان ينير دربنا كما يفعل هو… كلنا مدعوون لسماع نداء الرب.
وكلنا سوف نسأل يوماً عن الوزنات التي وهبت الينا.
لقد اختارتنا العناية الالهية وعلينا جميعاً ان نحسن الخيار ونسمع صوت الراعي يدعونا في اعماق نفوسنا ، كل حسب طاقاته وموقعه الاجتماعي او الديني.
الأب طوني الخولي، سمع صوت الرب يناديه فترك كل شيء وتبعه.
انه مثال حي يحتذى به مع العديد من الكهنة والرهبان والراهبات والآباء والشبيبة التي سمعت ايضاً نداء الرب وقررت السير على خطاه.
شكراً أبونا طوني لأنك رفضت اجراء مقابلة معي، لكنك ختمت شهر مريم العذراء بلقاء موسع مع كل المؤمنين.. صلي لأجلنا ونحن ندعو الى الله ان يحفظك مثالاً حياً لمجده.
pierre@eltelegraph.com