ملامح الدولة المهدية العالمية

(الحلقة الاولى)

بقلم الاستاذ رحيم كاركر

 

ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثُها عباديَ الصالحون» سورة الأنبياء 105

المدخل:
من وجهة نظر الشيعة فإن مستقبل السياسة (الدولة) تفاؤلي بغاية الوضوح، فإنّ التاريخ يسير نحو بلوغ المجتمع المطلوب والمثالي، وستتحقّق المدينة الفاضلة في الارض بيد اصحاب الحق، وبقيادة المصلح الموعود، وبالاستعانة بالعون الإلهي، وسيتزعّم ادارتها المنقذ المنتظر.
إنّ المجتمع المهدوي نهاية مسار التاريخ، ونقطة انطلاق لحياة متكاملة دون عوج وأمت.
إنّ السياسة في هذا المجتمع “فاضلة»، و”إلهية» وستشيّد الدولة الأخلاقية وفق نظام الإمامة. وللناس – وخاصة المستضعفين منهم والصالحين – دور اساسي في ادارة الأمور وتسييرها، ولا وجود بعد ذلك للمترفين والمستكبرين والمزوّرين.
إنّ أهمّ وأولى ما يقوم به الإمام المهدي (عليه السلام) بعد انتصاره وسيطرته على العالم، هو تشييد الدولة، والإستيلاء على الحكم، وزعامة العالم. وقد شهدت شعوب العالم الاضطرابات، والحروب، والفساد، والجور، وانعدام الأمن، والإلحاد، وشهدت ايضاً دولاً، واحزاباً، ومنظّمات كثيرة، ادّعت كلّ منها خدمة العالم وتوفير الأمن واستقرار السلام، واستتباب الأمن، وتحسين الوضع الاقتصادي، بيد أنّ الواقع يظهر أنّ الطين ازداد بلّة، وما حصل ما كان إلاّ انحطاطاً، وظلماً وحروباً طاحنة، قضت بويلاتها على الاخضر واليابس. مع كل هذه الويلات! سيأتي الغد الواعد الذي تستقرّ فيه القيم الروحية والعدالة بيد ذلك الولي الإلهي وفي دولته الكريمة، دولة اهل البيت (ع) وسيعمّ العالم الرخاء والأمن وينتشر العدل والتوحيد في انحاء العالم كافة.
ومن الواضح أنّ هذا لن يتحقّق إلاّ بإنشاء دولة وانسجام في الأمور.
يقول الإمام الباقر (ع) في تفسير آية: “الذين إن مكّناهم في الارض..» : “وهذه الآية لآل محمد الى آخر الآية، والمهدي واصحابه يملّكهم الله مشارق الارض ومغاربها، ويظهر الدين، ويميت الله – به وبأصحابه – البدع الباطلة كما أمات السفه الحقّ حتى لا يُرى أثر للظلم.
وسيتولى الإمام المهدي ادارة العالم بعد انشاء حكومة عالمية على اساس نظام الإمامة، ويقود البشر نحو الكمال المطلوب نحو السموّ الأخلاقي، وإكمال مكارم الأخلاق، يحيي المجتمع الميت، ويعيد الحياة للديانة والمعنوية.
إنّ قضايا العالم الشائكة لا سيّما في مجال الأخلاق والمعنويات – لن تجد حلولاً إلاّ في ظلّ دولة الإمام المهدي (ع) حيث سيتبوأ مكانتها المعنوية والعدالة والعقلانية، ويبلغ المجتمع الكمال والرقيّ والسموّ والتطوّر.
أهداف وطموحات الإمام المهدي:

إنّ دراسة ومناقشة غايات أيّ نهضة تعطينا دلالات عن طبيعة وجوهر هذه النهضة. وسنجد أنّ بعض هذه الغايات والأهداف مفصلية وأساسية بينما تكون الغايات الاخرى فرعاً وتبعاً لتلك الغايات وتعرف ضمن سياقها. وفيما يأتي سرد لأهم أهداف ومطالب دولة الأئمة (ع) وهي ذات طبيعة كمالية واخلاقية:
1- هداية المجتمع البشري نحو الكمال المنشود والتطور في السلوك الأخلاقي (وهو الهدف الأساسي).
2 – استقرار العدالة الاجتماعية، ونشر القسط والعدل في كل العالم.
3- ادارة وضبط نظام العالم على اساس الإيمان بالله واحكام الشريعة الإسلامية وتعليمات القرآن.
4- استقرار السلام والأمن العالمي وبسطه، والقضاء على روح التشدّد والعدوانية والحرب والحقد والأنانية.
5- انقاذ الناس من مخالب الظالمين والجبابرة والمفسدين، ورفع راية التوحيد والعدالة.
6- إحياء التوحيد.
7- تشييد حكومة الإسلام العالمية، والسيطرة على مقاليد الأمور.
8- تكامل العلم البشري والتطوّر والازدهار العقلي والفكري.
9 – إعادة شؤون الحياة الى مجراها الصحيح، والاستغلال الأمثل والأفضل للمصادر والإمكانيات المادية والمعنوية  في العالم.
10 – القضاء على اشكال التمييز العنصري والطبقي والفئوي، وتعزيز روح التكافؤ والمساواة.
11 – بسط الفضائل الأخلاقية ونشرها، واستئصال الرذيلة والقذارة الأخلاقية و….
إنّ بلوغ هذه الأهداف السامية والمقدّسة رهن بأن يقوم الأئمة (ع) بداية بتغيير سلوك الناس وخلقهم، وإصلاح نفوسهم وإحيائها.
فبعد الانتهاء من هذه الغاية الأساسية، وهي تزكية النفوس وتهذيبها، وبعدما نمت في نفوسهم الأخلاق السامية، ودبّت في عروقهم الجافة ينابيع المعرفة الفكرية، وعادت الحياة الى كافة مرافقهم الاجتماعية، مالت نفوسهم إلى التغيير، واشتاقت قلوبهم إلى ضبط ما زاغ عن الطريق، وتقويم ما زل عن السبيل.
مشاريع التغيير في عصر الظهور:
سيقوم الإمام المهدي- وذلك بعد تشييد حكومته العالمّية، وتكوين حكم الصالحين والنُّخَب وبالاستعانة بهم – بمبادرات موسّعة وشاملة ترمي إلى إصلاح الأمور وتحسينها، مسخّراً كافّة الآليات والإمكانيات في خدمة سموّ النّاس المعنوي والمادي وتعاليمهم.
ومن الممكن إحصاء أهم برامج ومشاريع الائمة عليهم السلام، والّتي تغطّي سائر التغييرات والإصلاحات في المحاور العامة التالية:
سيادة الأخلاق في العالم:

سيقدّم الإمام المهدي بعد تأسيس دولته وتولّي السلطة في العالم أداءً متكاملاً أخلاقياً متعدّد الجوانب. وبناءً على هذا سيكون النظام السياسي لدولة المهدي المنتظر نظاماً ودولةً متكاملة بكفاءة عالية، كفاءة توظّف الطاقات الكامنة، وتستغلّ بصورة تامة ومنسّقة ومتعادلة ومتعالية شاملة لجميع المواهب والإمكانيات والفرص الاقتصادّية والثقافية والاجتماعية، وتقلّص أو تقضي على جميع أشكال التعدّي والاستهانة.
وهذا التوجّه ليس مثالياً بعيد المنال، وإنّما هو مشروع عمليّ يسير التنفيذ، لأن في عصر الظهور ستزول جميع العقبات والمعوقات كالتشدّد والحروب والفساد والعدوان، وتكون الزعامة الدينية والسياسية بحوزة إمام عالِم ومدير مقتدر وعادل.
والزعامة السياسية والدينية تعني الاستخدام الأمثل والأنجح لجميع الإمكانيات والمصادر، وتسخيرها لمسار الإنسان نحو الكمال. وقد أكدت الروايات المختلفة على أهمية دور الأخلاق ومحوريّته في مسيرة الإنسان نحو الاعتزاز والكمال المعنوي في الدولة المهديّة الكريمة:
قال الإمام الباقر عليه السلام: “إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وأكمل بها أخلاقهم».
وجاء في رواية أُخرى عن أبي جعفر عليه السلام قال: “إذا قام قائمُنا وَضَعَ الله يَدَهُ على رُؤوسِ العِبَاد، فجمع بها عُقولُهم و كملت بِهِ احلامُهُم».
تحقّق العبودية في ضوء الأخلاق:

قال رسول الله: “…يملأ قلوب عباده عبادة ويسعهم عدله…»، و:»به يمحق الله الكذب، ويذهب الزمان الكلب، ويخرج ذّل الرق من أعناقكم».
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير آية: (الملكُ يَومَئِذٍ لله) أنّه قال: “الملك للرحمن اليوم، وقبل اليوم، وبعد اليوم، ولكن إذا قام القائم لم يُعبد إلا الله عزَّ وجلَّ». وهذا يعني: بأنّ أهمّ ما تثمر به هذه الدولة هداية النّاس، وإحياء المجتمع الميت.
ب – الدعوة إلى الهدى:

جاء في الحديث: أنّ الإمام المهدي: “يُشيرُ بِالتُّقى ويعملُ بالهُدى». والهداية والإرشاد بنوعيهما التكويني والتشريعي، يكونان ضمن أهمّ ما تقوم به دولة المهدي، وستعطي اُكُلها في ظلّ كمال النّاس الأخلاقي وسموهم الروحي.
ج – إزالة المفاسد والدنس:

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال عن المهدي عليه السلام: “…وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمّة بعد فسادها…». ووفقاً لهذه الرواية سيكون إصلاح النّاس بعدما ركنوا إلى الفساد الخلقي، والتغيير الجذري في سلوكهم ومنطقهم، وتصوّراتهم اللاأخلاقية، من أهمّ وأبهى التدابير الّتي تقوم بها دولة المهدي عليه السلام. كما سيكون هذا التجديد المعنوي والإحياء الإنساني والإصلاح الحيوي مطلقاً وشاملاً لا عودة بعده نحو الفساد والزلل، وستشرق الأرض بنور ربّها ولا تبقى في الأرض بقعة عُبِدَ فيها غير الله عزّ وجلّ إلّا عبد الله فيها».
د – الدعوة للخير والبِرّ:

قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: “فاستَبِقُوا الخيْراتِ أَيْنَ ما تكونوا…»: أنّها نزلت في القائم وأصحابه.
وجاء في رواية أخرى: “إذا قام القائم من آل محمد يقول: يا أيها الناس، نحن الذين وعدكم الله في كتابه: (الذين إنْ مكَّنَّكم في الأرضِ أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر ولله عاقبة الأُمُور)».
وتظهر الروايتان أن المشاريع الاخلاقية والتربوية والدينية – لاعتلاء البشر نحو الكمال المعنوي والروحي – تكون من صُلب التدابير الأساسية الّتي يسعى اليها الائمة عليهم السلام وأصحابه.
هـ – نقاء القلوب وطيب النفوس:

وجاء في الحديث الشريف: “… وتطيب الدنيا وأهلها في أيام دولته…»، و: “… فيُعْلي أَمْر الله ويظهر دين الله…».
إنّ الناس بطبيعتهم واقعون في تيه الغفلة وظلمة الجهل وغياهب الكفران ومتاهات الذنوب ودهاليز الفساد، وقد عبّر القرآن عن هذه المساوئ بالصُّم والبكم والعمى. وسيتم التصدّي لهذه الامراض الروحية والنفسية وعلاجها في عهد الائمة عليهم السلام والقضاء على جذور الاوبئة الأخلاقية، فقد أوصى المعصومون النّاس باتّباع المهدي عليه السلام وقالوا: لو اتبعتموه، لـ “سلك بكم مناهج الرسول فتداويتم من العمى والصمم والبكم…». فإنه يحطم حصون الضلال ويفتح القلوب المغلقة، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت منهم ظلماً وجوراً، أنجي به من الهلكة وأهدي به من الضلالة.
استقرار العدل والأمن:

إنّ قيام دولة المهدي عليه السلام واستقرار حُكمه العالمي يؤدي إلى آثار ونتائج ايجابية مؤكّدة على مستوى العالم، فمنها انهيار دولة الباطل، واستئصال جذور الحروب، وكافة أشكال الجور والتمييز والظلم والاستعباد، واستتباب السلام والأمن، واستقرار العدل ونشره.
وسيتم القضاء على جميع أشكال الشرّ، ولا سيّما ما تركه حكام الجور وغيرهم من المترفين والمستكبرين الحاقدين من تراث المثالب والسيئات، ووحده الخير سيبقى، والبرّ الذي سيعمّ أرجاء المعمورة، وسيزول الشرّ-، ويبقى الخير، وتخلو الأرض من أيّ عدوان ورجس وظلم. أجل، إنّها دولة المهدي الموعود الّذي يطهر الله من كل جور، ويقدّسها من كل ظلم.
وبناءً على ما أوردناه يمكن إحصاء الآثار والنتائج الآتية:
أولاً: استقرار دولة الحق
إنّ من بركات ونتائج خروج الإمام الباهرة هي فيما يكون من بشارة الفرج للنّاس في وعد الله الذي لا يخلف، واستقرار الأمن والعدل في ظلّ حكومة المهدي العالمية العادلة:
أ – الحكم العالمي العادل:

إنّ المهدي وأصحابه يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويفرض سلطان دولتهم على شرق العالم وغربه.
ب – ظهور أفضل الدول:

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام هذا البيت من الشعر يبشر به دولة المهدي عليه السلام:
لكُلِّ اُناسٍ دولةٌ يَرْقبونها ودولتنا في آخر الدَّهرِ تظْهَرُ .
أجل، إنها أفضل الدول التي يصفها الإمام الصادق عليه السلام بهذه العبارات: “دولتنا آخر الدول، ولن يبق أهل بيت لهم دولة إلّا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء وهو قول الله عزّ وجلّ: (والعاقبة للمُتَّقين)». وأيضاً قال عليه السلام: “فعندها يتلألأ صبح الحقّ، وينجلي ظلام الباطل».
ج – زوال دولة الباطل:

عند ظهور القائم تزول دولة الباطل، وقد أشار أئمة اهل البيت عليهم السلام إلى أنّ زوال ملك الأمراء والجبابرة يكون على يد قائمهم وأصحابه الّذين “يظهر الله الحق بهم، ويخمد الباطل بأسيافهم»، وهو الذي يبير الله به كلّ جبار عنيد، ويهلك على يده كل شيطان مريد». وفي الحديث: “إنّ الله سبحانه وتعالى خاطب حبيبه المصطفى محمد ليلة الإسراء والمعراج» وقال ممّا قال عن القائم: “وبه أُطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي».
ثانياً: استقرار القسط والعدل

إنّ أهم وأبرز ما ينتج عن تشييد الدولة المهديّة نشر- القسط والعدل في كافة أرجاء البسيطة، وزوال الظلم والجور. والعدل والقسط ما تهوي إليه الأفئدة وتحيد إليه النفوس وتنشده فطرة البشر، فالكل يطمح بأن يوصف بالعدل ولا يوصم بالظلم.
وأما الرسل فقد اتّخذت من العدل والقسط غاية لها، وقد أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (لِيَقومَ النّاس بالقِسْط..) بأهمية هذه المفاهيم البالغة، وكما أسلفنا فإنّ جهود الرسل في تحقيق القسط لم تفلح، ووحدها دولة المهدي قادرة على تحقيقه على وجه الأرض ونشره بشكل دائم يسع الجميع، كما جاء في الحديث: “ويسعهم عدله».
وجاء في الروايات أنّه: “يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً»، سيدخل عدله بيوت النّاس كما يدخل الحرّ والبرد. كما أنّ الأرض تحيى بعدله بعدما أماتها جور الجبابرة وظلمهم، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام في قول الله عز وجل: (اعْلموا اَنّ الله يُحْيي الأرض بعد موْتِها) قال: “يحييها الله عز وجل بالقائم بعد موتها بموتها كفر أهلها والكافر ميّت»، ويحيي سيرة العدل والحكم العادل، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك: “فيُريكُم كيف عدلُ السِّيرة ويُحيي ميِّت الكتابِ والسُّنَّةِ».
ثالثاً: سيادة السلام والأمن

ومن ملامح دولة المهدي الموعود الأخرى، استتباب الأمن والسلام الحقيقي، حيث يسود الوئام والهدوء جميع مناطق العالم المتوتّرة والمضطربة. ففي حكمه يزول الخوف ويعمّ الأمن ويؤمّن النّاس على أرواحهم وأموالهم واعتبارهم. ويتم تحت ولايته للعالم إجتثاث القمع والتعسّف والتشدّد والاستعباد والاستكبار والاستضعاف كتراث الحكومات غير إلهية، وسيتم إقصاء مقترفيها تحت أيّ مسمّى كانوا وبأيّ صفة قاموا بهذه الجرائم.
إنّه عصر- لم يعهده البشر- حيث يتمتّع بإنجازاته طيلة أيام حياته، وستكون أفضل وأجمل عهد يعيشه هذا المقهور طيلة القرون والعقود على المعمورة. أجل إنّه هو المهدي المغيث والمنقذ والمُعين للمستضعفين والمظلومين والصالحين جميعاً. قال رسول الله: “يخرج المهدي في أُمتي يبعثه الله غياثاً للناس…».