بقلم هاني الترك OAM

عقد منذ عدة سنوات في ملبورن مؤتمر «السنوات الاولى في المدرسة». ومن ضمن الخبراء الذين تحدثوا في المؤتمر المؤلفة والمستشارة في الآداب ميم فوكس والتي قالت ان المدرسين يبقون بدون اي تأثير اذا لم يقرأوا للتلاميذ الروايات والشعر والقصص والكتاب المقدس والاساطير القديمة حتى يثروا خيالهم ويأتوا بالافكار الابداعية ويتعلموا الكتابة  الخلاقة.. فالقراءة في الصغر تختزن في العقل وتوسع المدارك وقد يستعملها التلاميذ سواءً عاجلاً في الصغر او آجلاً في الكبر ولا تضيع هباء.
وكان عميد الأدب العربي طه حسين يقول لتلاميذه اذا ارادوا ان يصبحوا ادباء «يا ابني اقرأ خير الكتب واكتب خير ما تقرأ واحفظ خيرَ ما تكتب وتصبح بذلك اديباً».
فان الكتابة هي عملية ابداع العقل البشري.. وهي في حد ذاتها افراج عن الافكار والاحاسيس المتراكمة عبر السنوات في اعمال الكاتب.. وتلعب دوراً رئيسياً في التعبير عن مكنونات الكاتب وايصال افكاره للقارئ لتتم عملية المشاركة العقلية والوجدانية.. قرأت منذ مدة قصة فتاة استرالية مراهقة اصيبت بانهيار عصبي ودخلت مستشفى الامراض العقلية للعلاج.. اخذت تشغل نفسها بالكتابة.. حتى ادت الكتابة بدور رئيسي في علاجها وانتشالها من انياب المرض.. وحينما خرجت من المستشفى مارست الكتابة واخذت في تنوير عقلها بالاطلاع المستمر حتى انها ربحت جائزة تقديرية اولى في كتابات الشباب الاسترالي واصبحت كاتبة قديرة.. وهي تقول انه لولا اكتشافها هواية الكتابة والمطالعة في المستشفى لما استطاعت التغلب على قسوة المرض العقلي اللعين الذي اصابها.
وقرأت ايضاً قصة الاسترالية ستيلا آلن التي كانت تبلغ 17 عاماً من العمر حينما وقعت اسيرة في الحرب العالمية الثانية على ايدي اليابانيين.. وكانت حياة الاسر معذبة للغاية اذ عاشت ظروفاً وحشية غير انسانية.. ولم يكن امامها للتعبير عن مشاعر الظلم والاحباط والمعاناة في الأسر سوى كتابة يومياتها.. وبعد انتهاء الحرب والافراج  عنها احتفظت بيومياتها ونشرتها في كتاب.. وهي تقول انها لو لم تقم بتسجيل معاناتها اليومية اثناء الأسر لما استطاعت تحمل العذاب وربما لاقت حتفها.
وابداع المؤلف الكبير اللبناني الاصل ديفيد معلوف يعود الى امه التي كانت تقص عليه الحكايات حتى اخصبت من مخيلته واصبح افضل روائي في استراليا.
ويجب هنا ذكر واقعة تاريخية تظهر مدى تأثير الفنون والآداب على الإنسان.. ففي الاعوام 1876 كان رئيس حكومة مستوطنة فكتوريا ديكن يود ان تدخل المستوطنة في الاتحاد الفيدرالي.. اذ عُقد استفتاء في كل المستوطنات لمعرفة مدى رغبة السكان الدخول في الاتحاد ولكن الاستفتاء لم ينجح اذ اراد معظم الفكتوريين عدم الدخول في الاتحاد.. فقام ديكن بتأليف مجلس الفنون والآداب الذي قام بالتوعية الثقافية والفنية والأدبية تم تأثيرها على السياسة من اجل موافقة الشعب الفكتوري على الاتحاد.. وبالفعل فقد نجح الاستفتآء بعد ذلك دخلت فكتوريا في الاتحاد الفيدرالي عام 1901.
واذكر انه اثناء طفولتي كانت لدينا خادمة موهوبة اسمها ام سعدو تقص علينا كل ليلة الحكايات والقصص وتلهب مخيلتي وتوسع من مداركي وتفتح فضولي على الاطلاع ..
فمنذ الصغر كنت اقرأ حتى ان القراءة قد اثرت على بلورة وتطوير افكاري ونظرتي للحياة والناس.. فمثلاً في فترة الشباب كنت انهل من الفلسفات المادية العلمية التي لونت نظرتي للناس والعالم وعلاقتي بهم.. فكنت دائماً اجمع الكتب حول تلك الثقافة الكلاسيكية مما سبّب عزلتي عن المجتمع وعن معرفة الله.. ولكن ظللت اتردد على المكتبات ولم ينقطع تعلقي بالكتب حتى ان امنيتي كانت دائماً ان اعمل في مكتبة.. وفعلاً واصلت علومي في استراليا وتحققت امنيتي واصبحت اعمل في المكتبات وقضاء اغلب الوقت بين رفوف الكتب.. وواصلت الدراسة ولم اتوقف عن تحصيل العلم والاطلاع.. حتى وجدت نفسي  منذ حوالي عشرين عاماً اميل الى الثقافة المثالية مثل الميتافيزيقا وعلم اللاهوت والفلسفة العقلانية.. وعرفت الله عن طريق القراءة وآمنت به فهدأت بذلك ثورة نفسي.. وبت احب الناس من اعماق قلبي بعد عزلة طويلة.. وظلت القراءة هي منهج حياتي والعمود الفقري لوجودي.. واصبحت احب ثلاثة اشياء لا استطيع ان اتخلى عنها او اعيش بدونها هي الله والانسان والكتاب.. ولولا الاطلاع لما توصلت الى تكوين فلسفتي الخاصة بي في هذه الدنيا.
ان القراءة والكتابة هما مثابرة وجهد وتعبير.. وعن طريقهما تخرج الافكار والانطباعات والمعاناة  والصراعات الى السطح من خلال عملية الابداع . واذا لم تخرج فربما تمرض صاحبها او تحطمه وتقضي عليه.. فاذا شعرت عزيزي القارئ بالملل او التوتر فما عليك الا ان تلجأ الى القراءة او ان تمسك قلماً وتخط فيه احساسك وفكرك بشعورك وخواطرك.