إعداد بيار سمعان

عند وقوع التفجيرات الارهابية في نهاية العام الماضي في باريس، اطلق الرئيس الفرنسي دعوة لافتة الى روسيا للتعاون معها على ضرب تنظيم «داعش» الذي تبنى العملية الارهابية التي اودت بحياة 123 فرنسياً.
النداء الفرنسي اثار اهتمام الادارة الاميركية، فطار الرئيس الاميركي بعد ايام ليجري محادثات مع الرئيس الفرنسي. فرنسا الحليفة للولايات المتحدة والمشاركة في قوات التحالف، لم تطلب من شركائها التعاون لضرب مراكز «داعش» والانتقام للعمل الارهابي، بل طلبت مشاركة روسيا في هذه العملية. وفي هذه الدعوة الفرنسية دلالات كثيرة تعكس ليس فقط الموقف الفرنسي من الولايات المتحدة، بل ربما الموقف الاوروبي بشكل عام. فالاعلان الفرنسي جاء لينهي مباشرة الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على اوروبا بخصوص مقاطعتها روسيا تجارياً وعسكرياً وسياسياً. من هنا يفهم اهمية الدعوة الفرنسية في هذه المرحلة وقيام الطيران الفرنسي بالتعاون مع روسيا المتواجدة في الداخل السوري بتوجيه ضربات مركزة ضد مواقع «داعش» رغم المساعي الاميركية لدفع فرنسا الى الالتزام بسياسة الولايات المتحدة والبرنامج العسكري الذي رسمته لمحاصرة واستيعاب «داعش» فيما المطلوب القضاء على هذه الظاهرة الارهابية المتطرفة التي تقلق بال الدول الاوروبية بالدرجة الاولى، نظراً لوجود الملايين من المسلمين في الداخل الاوروبي، يمكن ان يتحول بعضهم الى آداة تفجيرات امنية، الاوروبيون هم بغنى عنه.
في 3 ايار 2016 دعت فرنسا عبر البرلمان الاوروبي الى ضرورة التخلي عن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، والتزمت بها الدول الاوروبية.
وادرك الاوروبيون ان هذه العقوبات اضرت بمصالحهم بعد ان ردت روسيا بالمثل ومنعت وصول جميع السلع والمواد الغذائية والآليات الى اوروبا. الدولة الوحيدة التي لم تعان من هذه العقوبات هي الولايات المتحدة وحدها، لكنها  تأثرت من تمدّد الاقتصاد الاوروبي نحو آسيا الشرقية على حساب المصالح الاميركية واصبحت المستودعات الاميركية معبأة بالاجبان والألبان التي لم تتمكن من بيعها.
كذلك تأثرت اوروبا سلباً بغياب السواح الروس واستفادت روسيا من هذا الحظر لتنتعش سياحتها الداخلية، خاصة على شواطئ البحر الاسود خلال فترة الصيف.
فما هي خلفيات الموقف الفرنسي وهل يعمم هذا الموقف ليصبح اوروبياً؟؟
< الموقف الاوروبي
استنتجت الدول الاوروبية، وهي التي تسعى ان تستعيد دورها الرآئد على الساحة الدولية ، اموراً عديدة، قد يكون اهمها القضايا التالية:
– اقتنع الاوروبيون ان الحربين العالميتين تسببتا بدمار اوروبا وبتحويل الطاقات البشرية والصناعية والمالية لصالح الولايات المتحدة بالتحديد.
– كما ادرك الاوروبيون انه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم الى قوتين: شيوعية ورأسمالية (اميركا والاتحاد السوفياتي) فرض على اوروبا حالة من الرعب من وقوع حرب نووية يتسبّب بها الاتحاد السوفياتي وهذا ما عرف بالحرب الباردة. وتمكن الاميركيون عن طريق هذا الرعب – الوهم من احكام سيطرتهم على القرارات السياسية الاوروبية وفرض منظمة الحلف الاطلسي (ناتو) ووزعت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية في دول اوروبية بحجة الدفاع عنها في حال نشوب حرب عالمية.
– استنتجت القوى الاوروبية بعد هذه التجارب وقيام الاتحاد الاوروبي ان الادارة الاميركية هي اسيرة شركات تصنيع السلاح والبنك المركزي الذي تديره 7 عائلات اميركية (؟) والمؤسسات التجارية الضخمة التي تسيطر على قطاع الغذاء والطاقة والصناعات الكبرى في البلاد. وادركت اوروبا ان القرارات التي تصدر عن الادارة الاميركية لا تنبع عن فكر متحرّر وقرار مستقل، بل غالباً ما تفرض على الادارة الاميركية بفعل هيمنة هؤلاء على خيرات البلاد وقرارات الادارة الاميركية. فالمواقف الاميركية تمليها مصالح هؤلاء وليس بالتالي مصالح الشعب الاميركي وهي محصلة الضغوطات التي تمارس على الادارة السياسية.
واصبح تأثير هذه المجموعة كبيراً لدرجة ان العالم بأسره بدأ يشعر بغياب الموضوعية والمنطق في السياسة الاميركية الخارجية واعتماد النسبية بحجة المصالح العليا للبلاد. فالادارة الاميركية ليست في النهاية سوى الواجهة العلنية لمصادر قوى سرية تقف وراءها وتتحكم بقراراتها. وبدأت اوروبا كالعديد من دول العالم الثالث بالاعتقاد ان الولايات المتحدة تحولت الى «دولة فاشية او نازية» جديدة ومافيا دولية «تسعى للتحكّم بالقرار السياسي العالمي، وان طرح موضوع «الحكومة العالمية الواحدة» ما هو سوى القناع للتحكم بقرارات وخيرات العالم. وبدأت اوروبا تتقارب اكثر فأكثر من الموقف الروسي الذي ينظر الى هذه «المافيا الدولية او النازية الجديدة»  الاميركية انها العدو رقم واحد. كذلك اصبحت اوروبا تشعر للمرة الاولى ان هويتها وتاريخها وتمايزها الثقافي هو في خطر وتقوم هذه المافيا الدولية بتهديد مستقبلها واعادة رسمه على اسس ومعايير جديدة، خوفاً ألا تعود اوروبا للعب دورها الريادي، وهي قادرة على ذلك.
ونتيجة لهذه القناعات بدأت اوروبا مجتمعة (فرنسا، ايطاليا، اسبانيا، المانيا…) تتخذ خطوات ميدانية وتدابير عملية تبعدها شيئاً فشيء عن التحالف مع «النازية الجديدة» القادمة من الولايات المتحدة، كونها مصدر الحروب والاضطرابات التي لا تخدم المصالح الاوروبية ولا حتى مصالح الشعب الاميركي نفسه، بل تتلاءم مع اهداف الاقلية المتسلطة على مصيرهم. وتميل الدول الاوروبية الى وقف الحوار مع الادارة الاميركية كونها غير مستقلة في قراراتها. فالحوار لن يجدي معها نفعاً لأنها اسيرة القوى الخفية. ولم تتردد روسيا وهنغاريا من توجيه الانتقادات المباشرة للمنظمات المالية والشركات الضخمة التي تسعى الى فرض هيمنتها على القرارات الكبرى والساحة الدولية. ان بداية التحالف الجديد الذي اطلقته فرنسا وتسير به ايطاليا وتوافق عليه اسبانيا والمانيا ودول اوروبية اخرى، قد يؤسس منطلقاً وبداية تحوّل في التحالفات الكبرى والمزيد من التقارب من روسيا. وقد لا تتردّد اوروبا من التخلي عن التزاماتها بالحلف الاطلسي الذي اصبح عبئاً عليهم وفقدت اوروبا الحاجة اليه مع غياب اجواء الحرب الباردة وتحسين العلاقات الاوروبية الروسية. فروسيا الجار هي بالنسبة لاوروبا الحليف الطبيعي لها، خاصة بعد ان اظهر الرئيس الروسي انه صاحب رؤية ويلتزم بما تنص عليه مصلحة بلاده ومصلحة الدول الاوروبية. فكم وجّه من الرسائل التحذيرية مطالباً القادة الاوروبيين عدم الاتكال على من يسبّب لهم المشاكل.
رئيس الوزراء الايطالي السابق رومانو برودي يدعو بدوره الى رفع العقوبات عن روسيا، كما فعل وزير الخارجية الاسباني خوسيه مانويل غارسيا الذي طالب باستعادة الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والاتحاد الاوروبي. الرئيس النمساوي هانز فيشر دعا بدوره الى التخلي عن العقوبات المفروضة على روسيا، وترى فنلندا الاولويات ذاتها وتعترض على توسيع صلاحيات الحلف الاطلسي، بل تطالب بخفضها، لأن اوروبا اليوم تحتاج الى طروحات جديدة ورؤية مختلفة نحو الواقع والمستقبل على حد السواء. ويبدو مما اوردت ان اوروبا اصبحت اليوم على مشارف اتخاذ موقف علني من الولايات المتحدة، حتى لو ادى ذلك الى خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الاوروبي. لأن مصالحها الاقتصادية تتعلق بمدى ارتباطها باوروبا وليس بتقربها السياسي من الولايات المتحدة. فالخطوة الاولى التي اطلقتها فرنسا ويقودها الرئيس هولاند هي رأس جبل الجليد الاوروبي الذي يتحول نحو المزيد من التقارب مع روسيا، بعد ان فقدت الولايات المتحدة الكثير من مصداقيتها وتجردها  في معالجة القضايا الدولية.
Pierre@eltelegraph.com