بقلم بيار سمعان
تتميّز الكائنات بالقدرة على التكيّف مع التبدلات البيئية والمناخية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والعوامل الخارجية… غير ان هذه القدرة على التكيّف لا تحدث دائماً بسهولة ودون ردود فعل وانعكاسات نفسية على الافراد والمجتمع بشكل عام، خاصة ان التغييرات التي تطرأ على المجتمع لاسباب كارثية طبيعية كانت ام حروب تفرض من الخارج او ثورات داخلية.. تؤثر سلباً على نمط حياتهم واقتصادهم واعمالهم اليومية ومصادر خيراتهم الطبيعية والعملية.
فالانتقال الى مجتمع جديد بفعل الهجرة او اللجوء يتطلب عملية تكيف معقدة مع المجتمع والثقافة السائدة ونمط الحياة والنظام واللغة والقوانين المعتمدة لا تكون سهلة، بل تتفاوت في صعوبتها من فرد الى آخر ومن مجموعة الىاخرى. لأن تناسي الماضي والموروثات الثقافية ليس بالمهمة السهلة، كما ان الدمج بين الخاص والعام هو مسألة دقيقة للغاية.
ومن ردود الفعل اللافتة في مثل هذه الحالات لجوء المجموعات السكانية التي تتشابه في التاريخ ويجمع بينها العرق او الدين او الثقافة المشتركة، اقامتهم في اماكن متقاربة، فيؤلفون معاً مجتمعاً خاصاً بهم داخل المجتمع الكبير، وفي ذلك تدبير وقائي لحماية الذات والشعور بالطمأنينة مع مجموعة متآلفة، متشابهة تمتلك نفس التراث والهموم المستقبلية.
لكن في بعض الحالات تكتفي مجموعات اثنية بالمناخ الثقافي والديني الذي اوجدته، لتعيش حالة من العزلة الاجتماعية داخل المجتمع الكبير.. فالتغيير هنا فيه تحدٍ كبير يثير النفس ويحثها على الابتكار، كما يرعب الجسد ومتطلباته ويحدّ من قدراته.
كم هو عظيم هذا الانسان وقادر على التكيّف بشكل مثير وصادم احياناً. البعض يعيشون في القطب الشمالي ويتحدون الصقيع والجليد، وآخرون يعيشون في الصحاري الحارقة والقاحلة، في حين يعيش آخرون في الغابات المطرية ذات الرطوبة الخانقة.. البعض يعيشون في الادغال بعيداً عن المدن والحياة الحضرية والبعض الآخر في اعالي الجبال متأقلمين مع الطبيعة القاسية، لكنها قريبة من السماوات وفي عزلة كاملة.
البعض لا يرتدون اية ملابس على الاطلاق ولا يرون في ذلك اي عيب، لأن شدة الحرارة تفرض عليهم ذلك، ولأن العيب في فكر الانسان ونواياه وليس في الانسان بحد ذاته.. وآخرون تغطي الملابس اجسادهم من الرأس الى اخمص القدمين، اما وقاية من البرودة او تماشياً مع اعراف دينية او اجتماعية.
والحقيقة الاخرى ان كل منا يعيش في بيئة اجتماعية ومناخية مختلفة، كما يعيش في ظل نظام قمعي او ديمقراطي، في مجتمعات تعتمدالعنف لمعالجة مشاكلها او الفكر لإيجاد حلول للمعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. في بلدان حكومات تقهر شعوبها وفي بلدان اخرى لا يزال الفكر القبلي هو السائد،… ومهما تنوعت الظروف والانظمة، فإن الانسان يتميز بقدرة عجيبة على التأقلم والتكيف مع مختلف الظروف والاوضاع، خاصة في ظروف الحرب والثورات والعنف الدموي.. وهذا ما شهدناه في فيتنام على سبيل المثال عندما حاول الفيتكونغ العيش في الانفاق الجوفية تحاشياً لضربات الطيران الجوي.. وهذا شهدناه ونشهده في لبنان والعراق وسوريا الآن.
فالشعب اللبناني الذي يعشق الحياة، جمع بين النقيضين: الدفاع عن الوطن والموت من اجل ان يبقى.. وبينما كانت تدمر ابنية، كانت اخرى ترتفع او يجري اصلاح ما دمر.. وفيما الاعمال القتالية كانت تدور في مناطق كانت الحياة تجرى كالمعتاد في مناطق اخرى، لدرجة ان الوطن اختصر بالشوارع الازقة «والطرقات الآمنة والسالكة».. وفيما كانت تنهب خيرات البلد والمواطنين، كانت اعمال التجارة ناشطة حتى بين الفئات المتخاصمة.
لكن الحق يقال ان حالة القلق التي شملت كل المواطنين لم تمر دون ثمن. فارتفع عدد المدمنين على المخدرات والمسكنات وادوية الاعصاب، خاصة بعد ان ايقن جميع اللبنانيين انهم اخطأوا بحق بلدهم وبحق بعضهم البعض وتحولوا حجارة شطرنج في ايادي ما وراء الحدود.. فالجميع خسروا بطريقة ما ودفعوا أثماناً باهظة في الممتلكات والارواح وراحة البال.
الخطير في حالة التكيف ان اللبنانيين بالغوا فيه.. تكيفوا مع كل القوات والجيوش الاجنبية التي دخلت البلاد، وتكيفوا مع الفوضى ورائحة البارود وألفوا القتل ورؤية الدمار.. تاجروا مع الجميع، لكنهم خسروا ايضاً مع الجميع، لأن الاوطان لا تبنى بالشوائب والفراغ وتعطيل المؤسسات واكوام الزبالة.
وفي العراق، وعلى خلفية آلة الحرب الاميركية جرى تدمير البلاد بشكل منظم، مع بوش الأب ثم بوش الابن، تحولت البلاد الى حالة يرثى لها، وخضعت لعملية نهب منظمة، خاصة مع ظهور دولة الاسلام وقوات داعش. وكما استفاد الاكراد تعويضاً عن حرمان واضطهاد طوال اجيال، لبناء مقومات دولة علىانقاض العراق المدمر، كذلك استفاد شيعة العراق، وهم الأكثرية، من دعم ايران للتعويض عن حرمان واضطهاد وسوء معاملة على ايادي الانظمة البائدة. وهذا ما ترك المجموعات السنية التي منيت بخسارة صدام حسين وما يرمز اليه من السيطرة السياسية على البلاد والقلق على المصير..فجاءت المخابرات تغذي هذه المشاعر لتؤسس لدولة الاسلام،.
ورغم مظاهر التقسيم والسيارات المفخخة والتبدل في الادوار السياسية، حاول الشعب العراقي الحفاظ على الحد الادنى من الحياة الاعتيادية. ولم يعد الناس يأبهون للتفجيرات والقذائف والسيارات الملغومة او المعدة للتفجير، خاصة في الاحياء والاسواق الشعبية او في المساجد ودور العبادة.
ورغم حالة الحرب، فلا تزال العائلات تشارك في المناسبات والاعياد والاحتفالات، يخرجون في بغداد الى الأماكن العامة . اطفال يسبحون في مياه الفرات ليعالجوا حرارة الطقس، شبان لا يزالوا يخرجون للسهر ولقاء اصدقاء في دور الرقص او الساحات العامة.
يرددون عبارات رافضة لواقع الحرب، لكنهم غير قادرين على تغيير هذا الواقع.. فتترك الامور للعناية الالهية و… للقدر.. لأن الحياة ستستمر مهما بلغ الثمن وارتفع عدد الضحايا.
لا شك ان دولة الاسلام فرضت واقعاً سياسياً وجغرافياً جديداً على حساب الاقليات المسيحية واليزيدية.. اناس كثر فقدوا الأمل في اصلاح الاوضاع او استعادة ما فقدوه، ففضلوا الرحيل دون عودة. وبدأت مسيرة نحو الغرب، اوروبا، كندا ، الولايات المتحدة واستراليا.
الارض باقية.. والامل باقٍ ، وعندما تصلح الاوضاع وتعود الدولة، ربما يعودون الى البلدات والقرى التي ارغموا علىاخلائها.
وما يحدث في العراق، يجرى تنفيذ سيناريو مماثل له في سوريا. فرز طائفي يفرض واقع جيوسياسي جديد.. ومن وُجد في المكان والزمان غير الملائمين يدفع الثمن. لاجئون بالملايين في لبنان والاردن وتركيا.
ايضاً هؤلاء فقدوا الرجاء بالعودة، فالحرب لا تزال في سنواتها الاولى. ولبنان هو افضل شاهد على ذلك. بعد حرب السنتين ومنذ التسعينات لا تزال الدولة فيه مجرد مجموعات متناحرة مستفيدة من السلطة وخيرات البلد.. فما بال الحال في العراق وسوريا والتعقيدات المتأزمة يوماً بعد يوم.
فالمجتمع الدولي كله معنى بتلك المنطقة؟ بلاد النفط والغاز والوقود والثروات الطبيعية الاخرى.
حتى الصين تتهيأ للدخول اليها كما فعلت روسيا وقوات الحلف الاطلسي والولايات المتحدة التي لم تخرج منها اصلاً لكي تعود مجدداً، فهي موجودة في اكثر من بلد واكثر من قاعدة عسكرية.
وحده الشعب يدفع الثمن، حتى اصبح عاجزاً عن التكيّف. فاللجوء الى بلدان مجاوره لن يعالج جوهر المشكلة واسبابها رغم كل المساعدات الدولية والرعاية التي توفرها الدول الكبرى.
مجدداً اصبح فقدان الامل القوة الدافعة للبحث عن وطن بديل، خارج الوطن العربي وبعيداً عن الوطن الأم.. وعائلات في المخيمات اصبحت تقبل ببيع فتياتها على امل ان يوفرن لقمة عيش او يفتحن طاقة امل للعائلة.
ردود فعل يائسة، لكنها لا تعني ان الحياة لن تستمر، كثر يعملون ويتاجرون ويدروسون وينتجون وكأن الحياة مستمرة.
لكن يبقى السؤال الجوهري هو التالي:
الى متى سترغم شعوب الشرق الاوسط على التأقلم مع موجات العنف والدم وعلى دفع اثمان باهظة لمخططات الآخرين على ارضنا؟
pierre@eltelegraph.com