بقلم هاني الترك
By Hani Elturk OAM
صدر كتاب لبروفسور سامر عكاش يحمل عنوان: يوميات شامية: قراءة في التاريخ الثقافي لدمشق العثمانية في القرن الثامن عشر.. وهو أستاذ تاريخ ونظريات العمارة والمدير المؤسس لمركز عمارة آسيا والشرق الأوسط لجامعة آدلايد عاصمة جنوب استراليا.. والبروفسور عكاش حاصل على دكتوراه في فلسفة العمارة من جامعة سيدني وباحث متخصص في تاريخ الفكر الإسلامي والتاريخ الاجتماعي العمراني والحقبة العثمانيج في بلاد الشام.. وحاز على عديد من الجوائز التقديرية العالمية في مجالي التدريس والبحث العلمي أهمها ثلاث منح بحثية كبيرة من مجلس الأبحاث الاسترالي وجائزة عضوية المجلس من الباحثين المتميزين.. وهو أيضا خبير استشاري دولي في العديد من المراكز البحثية والدوريات المحكمة العالمية.. وصدر له أبعة كتب وأكثر من خمسين بحثا منشورا في مجلات ودوريات عالمية محكمة.
والكتاب هو دراسة تاريخية لمجتمع مدينة دمشق في القرن الثامن عشر وهي بداية الانفتاح الاجتماعي وانصهار الفوارق الطبقية وتحة غير مسبوق للتقالية والعادات والقيم الاجتماعية والحضور البارز والجريء لمرأة في المدينة وبروز الطبقة الوسطى وظهور نماذج جديدة من الفن الأدبي وتوسع مجالات الحريات الفردية والجماعية وتفعيل للفضاء العام وانحصار القيود الدينية.. وهذه مرحلة الحداثة والحداثة المبكرة وهي الانتقال إلي المجتمعات العربية تدريجيا.. من حالة قديمة إلى حالة جديدة على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والعمرانية.. والدراسة في مدينة دمشق تحديدا لشريحة من الكتابات التاريخية بتفاصيل الحياة اليومية.
ويقول المؤلف أن الظهور اللافت للتغيرات الاجتماعية بدأ في القرن الثامن عشر أي قبل حملة نابليون على مصر وما تلاها من انفتاح واسع على الثقافة الأوربية يقدر بنحو قرن من الزمان.. فمن خلال مفهومي التاريخ الثقافي والحداثة المتشابكة في الأحوال والأفكار بالتركيز على الأحوا قبل الأفكار.. والظواهر الاجتماعية قبل ظهور القهوة والمقاهي والتدخين وغيرها من مظاهر اللهو الاجتماعي التي أصبحت من الأمور اليومية المعتادة العربية والتركيبة التي أسهمت في خلقها وتطورها وترسيخها قبل أن تمتد إلى الحياة المدنية الأوربية.
وتقدم الدراسة قراءة للواقع الحياتي الدمشقي من خلال عشرة مشاهد منتقاه من القرن الثامن عشر أهمها كتب اليوميات.. وأغلبها من يوميات أحمد البديري الحلاق الذي يسمي حوادث دمشق اليومية بتقديم استقراء جديد مغاير للقراءة التقليدية التي تنتهجها الدراسة هو النظر إلى التحولات الاجتماعية والعمرانية العثمانية والعربية على أنها جزء من التحولات الثقافية المب؛رة نحو المجتمع الجديد ليعطي المجتمعات العربية والعثمانية دورا محوريا في صناعة الحداثة بصفتها العالمية التي تبنتها مختلف الحضارات والمجتمعات الإنسانية اليوم.
ومن ضمن هذه المشاهد الحضور البارز والجريء للمرأة وتوسع مجال الفردية والجماعية وتفعيل القضاء العام وانحسار القيود الدينية علر الممارسات الاجتماعية من الفضاءات العامة في دمشق.. وفي المشاهد ظاهرة بائعات الهوى التي صورها البديري في يومياته على أنها منتشرة في المدينة بما يخص الحرية الجنسية.. والمشهد الثالث ينتقل إلى المنظار المسيحي ليصور جانبا من الانفتاح والحرية الاجتماعية للمرأة وفضاء التعايش الديني بين المسيحية والإسلام والتفاعل الفكري العقائدي بين علماء الدين.. والمشهد الرابع يصور الانفتاح الاجتماعي وحقوق المرأة البارز في الفضاء العام.. والمشهد الخامس يتناول هرمية المجتمع الدمشقي وطقوس التفاعل بين المراتب.. والمشهد السادس ينتقل إلى الجانب السياسي والإداري لبيان الدور الذي لعبه أسعد باشا العظم أشهر ولاة دمشق بإقامة نوع من العدالة الاجتماعية.. والمشهد السابع يركز على ظاهرة انتشار القهوة كمشروب اجتماعي وتكاثر المقاهي كتعبير عن تنامي الحريات العامة.. أما المشهد الثامن يتناول مسألة التدخين.. والمشهد التاسع يتناول موضوع الدنيوية وازدراء الدين وانحسار القيود الدينية.. وانتقل بعد ذلك المؤلف إلى المشهد العاشر والأخير الذي يتناول موضوع الفضاء العام وكيفية استقلاله من قبول الأصوليين والمنفتحين من علماء الدين للتأثير على الرأي العام.
وفي الخاتمة يقول المؤلف بروفسور عكاش أن المجتمعات العربية انتقلت من مرحلة تاريخية معينة من حالها القديم إلي الحديث مع التسليم بأن التحولات الاجتماعية هي دائما تدريجية.. فهناك حقبة من التاريخ الزوربي هي عصر الحداثة المبكرة ثم عصر النهضة ثم عصر التنوير بين القرن الخامس عشر والتاسع عشر .. ولكن ظهرت الحداثة المبكرة والحداثة عند العرب والعثمانيين بصورة متأخرة.. ولم تكن متطابقة مع الحداثة الأوربية وفي مظاهرها كما بينت المشاهد الدمشقية والانفتاح الاجتماعي .. فقد ساهم عصر التنوير الأوربي في تغيير المجتمع الإنساني تغيرا جذريا منها مواجهة السلطة الدينية ورفض احتكارها للعنف وفصل الدين عن الدولة وتأسيس مفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون والديموقراطية والتركيز على قدرة العقل الإنساني وإنجازات العلوم الحديثة وتوسيع مجال الحريات الشخصية والعامة. وينتهي الكتاب إلي القول بأن التعامل الثقافي بين الشعوب كان ولا يزال القاعدة الأساسية للتطور الحضاري.
فليس هناك فصل قاطع بين ثقافات الشعوب لأن الشعوب في تفاعل دائم والثقافات تشكل كلا متكاملا هو تراث الإنسانية المتجسد في الحضارة والحضارة هي حصيلة تفاعل لعدة ثقافات وحصيلة ثقافات العالم.
إن الدراسة التي قام بها البروفسور عكاش تتميز بأصالة اتباع المنهج العلمي في البحث فيها وهي دراسة متشابكة متفرعة. والكتاب موجه إلي القارئ العام ولكن على وحه الخصوص للقارئ المتخصص.. واعتمد فيها المؤلف التبسيط وقراءته رحلة ممتعة تنقله من الحياة من دمشق في القرن الثامن عشر وفي ذات الوقت دراسة أكاديمية علمية لموضوع يستحق البحث ويجب ترجمته إلي اللغة الإنكليزية حتى يطلع عليه القارئ الغزبي وخصوصا أن الممول له مجلس الأبحاث الاسترالي مما يدل على جدارة البحث وقيمته البحثية الأكاديمية.