كلير شكر
يجمع كُثر ومن دون أن يبوحوا بذلك، على أنّ «عقلاً شيطانياً» رتّب معادلة سليمان فرنجية ـ سعد الحريري للرئاسيتن الأولى والثالثة، لتكون رأس حربة الطروحات الرئاسية وأكثرها انقلابية فتطيح بكل ما سبقها أو يوازيها أهمية. إذ إنّ مجرد عرضها على النقاش الأولي بعد التأكد من جديّتها، وقع وقوع الصاعقة على رؤوس المعنيين، وكأنه أشبه بإنذار ينبئ بحدوث زلزال تدميريّ من شأنه أن يغيّر وجه التركيبة اللبنانية ويقلبها رأساً على عقب.
ورغم دوّي هذه العاصفة، فإنّ السكون لا يزال قائماً في مختلف المقار والقيادات السياسية. بعض الإشارات يبوح بما يدور في أذهان ساكنيها، ولكن أركان اللعبة يتعاملون بحذر مع كل حرف يعبّر عنهم وكل كلمة قد تتسلل من خلف الجدران الحديدية وترتّب عليهم موقفاً حاسماً سلبياً أو ايجابياً، لم يحن زمانه بعد.
هكذا، يتريّث سعد الحريري في الوقوف على المنبر ليعلن بالفم الملآن ما سبق ووضعه في عهدة ضيفه الزغرتاوي، لتكون الخطوة الرسمية الأولى في مسار يظنّ كُثر أنّه محمي بقدر كبير من الواقعية التي تخوله أن يكون أكثر العروض الرئاسية جدية منذ دخول فخامة الشغور الى القصر الرئاسي.
كما حرص الجنرال ميشال عون في إطلالته التلفزيونة الاخيرة على اختيار تعابيره بدقة شديدة كي لا يقول لا لحيلفه الزغرتاوي ولا يمنحه بالمقابل بركة هي إلزامية لتتويجه رئيساً للجمهورية المففكة. ولهذا أيضاً، راح الجنرال مباشرة الى «ورقته الضاربة» وهي قانون الانتخابات، ليذكّر الطباخين أنّ طريق بعبدا تمرّ عبر قانون يعيد انتاج السلطة.
بدوره لم يجد سمير جعجع حتى الآن سوى قشّة «14 آذار» لتكون خشبة خلاصه من كأس مرّة سيتجرعها فيما لو صحّت حسابات حليفه الأزرق وأتى بأشرس خصومه الى الكرسي المخملي، من دون أن يرفع صوته بوجه معدّي الطبخة ومن دون أن يفصح أيضاً عن مخططاته لعرقلة هذه المسيرة، وهو يعلم جيداً أنّ هامش التعطيل ضيق جداً طالما أنّ قدرة التفاهم مع المتضررين مثله، محدودة جداً.
كل ذلك لا يعني الا أنّ فسحة الحوار لا تزال قائمة، كما فسحة التفاهم. ولهذا يخشى أي من المعنيين تسجيل خروجه المبكر من قطار التسوية، الذي يُعتقد أنّه انطلق من محطته.
بدوره سليمان فرنجية حصر منبره بما يقوله بشكل رسمي، متسلحاً بمنسوب عال من الانفتاح قادر على استيعاب كل ردّات الفعل التي تصله، بالتواتر أو بالمباشر، من جانب بقية القوى السياسية الحليفة والخصمة التي تعمل على استقصاء الحقائق من داخل وخارج الحدود، وقياسها بميزان الممكن وغير الممكن. اتكأ حتى اللحظة الى عرض الوقائع التي قدمه قبل مجالسة وليد جنبلاط في كليمنصو وعلى البيان المقتضب الذي كان لا بدّ منه لشرح ملابسات اللقاء مع جبران باسيل.
من قرأ بين سطور البيان وكلام فرنجية لاحظ بوضوح أنّ الرجل يتصرف وفق خريطة طريق محددة تشي أنّ ما يقدم عليه مدروس في خطواته، لكونه بدأ حيث انتهى ميشال عون في مفاوضاته مع الحريريين، والمقصود بذلك نقطة الفصل السعودية، من دون أن يقطع مع حليفه البرتقالي.
لا بل يشدد على حرصه أن يكون خلف ترشيح الجنرال كما فعل منذ انطلاق السباق الرئاسي، ولكن ضمن مهملة زمنية يفترض أن يستغلها سيد الرابية لتأمين التوافق حول اسمه.. والا من بعدها كلام آخر.
يعرف أنّ واحدة من نقاط قوته هو تصنيفه من جانب القيادات المارونية، قطباً رابعاً يتمتع بنفس الحقوق والواجبات الرئاسية، ما يضعه في مرتبة الثلاثة الآخرين، شرط الحصول على الغطاء التوافقي من جانب القوى السياسية.
ويعرف أيضاً أنّ أبرز نقاط وهنه هو قانون الانتخابات الذي دفع «تيار المستقبل» الى تسليم كل أوراقه الرئاسية لتكون وديعة القطب الزغرتاوي، كي لا تدفعه التطورات الى التنازل في الملف الانتخابي. ومع ذلك، ترك فرنجية ثغرة في الجدار الباطوني من خلال تأييده السير بقانون انتخابات لا يقصي أي طائفة، ما يعني ضرورة قبوله من كل المكونات الطائفية، ما يعيد الطابة الى ملعب المسيحيين.
عملياً، هناك من يتعامل مع سليمان فرنجية على أنه «رئيس مع وقف التنفيذ». الحاجة الى الصوت المسيحي ليست ترفاً عددياً يُكمل نصاب الثلثين الضروري لفتح صندوقة الاقتراع، وإنما لإتمام واجبات الميثاقية الوطنية التي لا يمكن القفز فوقها. ولهذا لا بدّ من التفاهم مع جناح مسيحي قبل أي شيء آخر.
هكذا، يصير السؤال: ما هي الخيارات المطروحة أمام المسيحيين؟
حين ذكّر وليد جنبلاط بواقعة «مخايل الضاهر أو الفوضى» بدا وكأنّه يقول للمسيحيين أنّ فرصة سليمان فرنجية «ذهبية» قد لا تتكرر كل يوم. صحيح أنّه من المستفيدين من احتمال بقاء «قانون الستين» جاثماً على قلوب اللبنانيين، لكنه أيضاً يفتح شهية التساؤلات حول السيناريوهات المحتملة بعد سقوط التفاهم الباريسي، ربطاً بتعقيدات المنطقة التي قد تساهم في تربّع «فخامة الشغور» على كرسي الرئاسة لأجل غير معروف.
يقول بعض المسيحيين إنّ أبناء الكنيسة هم أول المتضررين من تحلل الدولة ومؤسساتها جرّاء الصراع حول هوية الماروني الأول، انتظاراً لدفّة قد لا تطبش في وقت قريب من حولنا. هذا ما يستدعي من أولياء الأمر التفاهم على مروحة الخيارات المتاحة أمامهم، كي لا يتسمّروا خلف «قوة التعطيل» التي وضعوا مؤخراً أولى لبناتها الأولى، ويعتقدون أنّ بامكانها انقاذ رئاستهم.
حتى اليوم، يتضح أنّ القوى المسيحية الممانعة لترشيح القطب الزغرتاوي، لا تملك الا ورقة قوة بيدها وهي «فيتو الرفض»، ذلك لأنها عاجزة عن التفاهم في ما بينها، كما يُنتظر منها، على مرشح من بين الرباعي.
فعلى رغم من الخطوات التنسيقية التي سجلتها ورقة «اعلان النوايا» بين «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية»، الا أنّها تفتقد لقوة الإقناع التي تتيح لموقّعَيها أن يسيرا بمرشح واحد، وطبعاً المقصود به الجنرال ميشال عون.
كما أنّ تذكير الوزير سجعان قزي بأنّ الرئيس أمين الجميل لا يزال مرشحاً للرئاسة، مع أنّ النائب سامي الجميل يسمّي موارنة آخرين لهذا الموقع، لا يساهم في ترفيع رئيس الجمهورية السابق الى مرتبة «مرشح المتضررين».
اذاً، يصعب على هذا الفريق أن يقدم أي طرح بديل لما عرض على المائدة الباريسية. ويمكن له حتى الآن النفاذ من ثغرة قانون الانتخابات، التي بدورها تفتقد لقوة دعم نظراً للتباين الحاصل بين الأحزاب المسيحية الأساسية، وعجزها استطراداً عن وضع تصور مشترك هي بحاجة ماسة له كي تُحرج سليمان فرنجية وتطالبه بتضمينه التسوية الرئاسية.
أما غير ذلك، فيعيد الجميع الى مربّع البداية…