بقلم بيار سمعان

قد تكون مرحلة الدراسة من افضل مراحل العمر، لكثرة الذكريات وقلة الهموم، بالمقارنة مع المراحل الاخرى من حياتنا…
من الاساتذة الذين اذكرهم جيداً، شخص من عائلة كساب، اعتقد انه تلقى علومه في نفس المدرسة التي كان يدرّس فيها آنذاك، لكنه، غادر لبنان مسافراً الى الولايات المتحدة. وبعد تقاعده عاد الى الوطن ليقضي آخر سنوات عمره في البلد الذي احب. وقرر خلال هذه المدة ان يتبرع ببضعة ساعات ليعلم اللغة الانكليزية في المدرسة التي يعود اليها الفضل في النجاحات التي حققها في حياه.
الاستاذ كساب كان يدرّسنا اللغة الانكليزية. وانا اتذكره كلما حملتني ذاكرتي الى تلك السنوات في منتصف الستينات من القرن الماضي، الى مدرسة غزير الاكليريكية، وكانت آنذاك بادارة الآباء اليسوعيين الذين انشأوها في مطلع القرن التاسع عشر.
والى جانب المواد التقليدية من حساب وآداب وعلوم وتنشئة وطنية ودين وتاريخ وجغرافيا… كنا ندرس العربية والفرنسية والسريانية واللاتينية ضمن نظام فرنسي يسوعي. فجاءت مادة اللغة الانكليزية لتحمل الينا نفخة انكلوساكسونية تختلف في اسلوبها عن المنهجية الفرنسية اليسوعية، والآباء اليسوعيون عرفوا بفلسفتهم الانضباطية المتشددة والمكثفة بالمعلومات، وهم الخبراء في التربية والتعليم لدرجة انهم كانوا يرددون: «اعطني طفلاً وانا اعطيك عبقرياً او… ما تريد…».
في هذه الاجواء بدأنا تعلم اللغة الانكليزية على يد شخص امضى معظم سنواته في الاغتراب، في الولايات المتحدة الاميركية. كان في سن التقاعد، ايضاً، عطوفاً محباً، شديد التهذيب وغير متسلط. اعتقد انه كان يعاملنا كأبنائه، وربما كنّا نرى فيه صورة الوالد الحنون الذي يتمنى كل الخير لابنائه..
اتذكر استاذ اللغة الانكليزية، ليس فقط بسبب سنّة وشخصيته، لكن ايضاً بسبب اسلوبه التعليمي. وكان في مطلع كل حصة يعيد علينا ما تلقيناه في الحصة السابقة. وعند الاعتراض كان يردد: «في الاعادة افادة» فنصمت ونرضخ ونتابع معه…
مع مرور الايام، اصبحنا ندرك اهمية التكرار والاعادة فهي مفتاح هام للتلقين ليس فقط للغة الانكليزية بل لكل الامور الثقافية والحياتية والمواهب والمهارات التي نكتسبها طوال حياتنا. والعلم في الصغر قد يكون الاهم لانه يحدد توجهات الطفل ويرسم شخصيته المستقبلية ويقرر مدى نجاحه وقدرته على التكيف والابتكار والتفوق هذا يوجب علينا الاهتمام بأطفالنا وتمضية بعض الوقت معهم يومياً، وقراءة الكتب والروايات لهم.
> قراءة الروايات للاطفال.
من افضل العادات هو جلوس الاهل الى جانب اطفالهم لقراءة بعض القصص بشكل يومي منتظم، هذا التقليد يقرب المسافات بين الاهل والاطفال ويرفع من مشاعر الطمأنينة والعاطفة والتواصل مع الاهل من الناحية العاطفية الشخصية كما ان تكرار قراءة الروايات المفضلة لدى الاطفال تدعم الذاكرة بنسبة 40 بالمئة، وان المناطق الدماغية المخصصة للفهم والادراك والذكاء التصويري يشهد نشاطاً خلال القراء ويساعد ذلك على تطوير هذه القدرات.
كما تبين ان لا حدود في العمر لهذه القدرات وان اختلفت درجات الوعي لدى الاطفال لذا ينصح قراءة القصص التي يختارها الاطفال بصوت عال مع مشاركة الطفل في تحديد مضمون الصور او اختيار بعض الكلمات والتعرف اليها داخل النص، خاصة عندما يبدأ في القراءة والكتابة… فان مساعدة الاطفال على تحديد بعض الكلمات تساعدهم على التأكد ان هذه الكلمات لها معاني وان ما يقرأون فيه دلالات، لذا يفضل الاجابة على اسئلة الاطفال مهما كانت سهلة ومبسطة او على العكس معقدة ويصعب شرحها لهم…
فلا حدود للاعمار، اذ يذهب البعض الى الاعتقاد ان الجنين يتفاعل مع الاجواء اللخارجية وان بعض الامهات تلجأن الى الموسيقي الناعمة والى التحدث الى الجنين. فقراءة الروايات منذ السنوات المبكرة تساعد الاطفال على الربط بين الكتاب والشغف لمعرفة ما في داخله…
وهذه بعض الحجج الاخرى المقنعة حول اهمية القراءة مع الاطفال بصوت مرتفع.
1 – تحسين الطلاقة.
وجد العلماء والباحثون في تربية الاطفال ان القراءة بصوت مرتفع تساعد الاطفال على اكتساب الطلاقة في التعبير عن افكارهم لاحقاً. وهذه (الطلاقة) لا تتعلق بسرعة القراءة، بل هي مزيج من الترابط بين تحديد الكلمات ومعرفة ما تعنيها وارتباطها في السياق القصصي للرواية، والقدرة على التعبير عن هذه المعرفة.
لذا ينصح عدم الاسراع عند قراءة القصص، وقراءة الكتب مع الاطفال يدفعهم لاعتبار هذه العادة مثالاً صالحاً لهم. ومن المفضل اختيار كتب تتلاءم مع ميولهم الشخصية وتشجيعهم على القراءة بصوت عالٍ. فهذا يساعدهم على تخطي الصعوبات اللفظية.
واعتبار كل كتاب جديد تحدياً آخر لهم ينمي قدراتهم الشخصية.
2 – القراءة تساعد على توسيع فهم المفردات، وفيما تهتم المدرسة بشرح المفردات للاطفال وتزيدهم معرفة في معانيها، بامكان الوالدين عند مشاركة قراءة الكتب مؤازرة المدرسة على شرح الكلمات الجديدة وتفسير معانيها. والطفل، وهو متعطش للمعرفة واكتساب معلومات جديدة يجد فائدة في سياق القصة. ويشجّع الباحثون، قبل البدء بقراءة كتاب ما استعراض الصفحات وشرح الكلمات الصعبة، لكي تأخذ معناها الصحيح عند قراءة الكتاب فيما بعد، اذ ان هذه الشروحات تبقى عالقة في ذهن الاطفال ويمكن تكرار التوقف عندها مرة ثانية في سياق النص… ففي الإعادة إفادة.
3 – مساعدة الاطفال على فهم النص.
ان اية قراءة ناجحة هي القراءة المبنية على الفهم. ونحن كراشدين، غالباً ما نعيد قراءة الجمل او المقاطع في حال نجد صعوبة في فهم معانيها. لذا ينطبق نفس المبدأ على الاطفال، لان هذا التصرف هو امر ضروري وحيوي ويجب تشجيع الاطفال ومساعدتهم على بناء ثقة بالنفس من خلال ادراك معاني النصوص التي يقرأون، هذه المبادرة تزيدهم حشرية للاضطلاع وحب المعرفة وتبني مشاعر الثقة في قدراتهم وبالتالي في شخصيتهم.
4 – مشاركة سائر افراد العائلة بالقراءة.
من حسنات القراءة بصوت مرتفع انها تشارك سائر افراد العائلة بها ولو كان بطريقة غير مباشرة، اذ ان سماعهم للنص الروائي يدفعهم الى متابعة التسلسل القصصي فيما يقومون بأمور اخرى. ويستحسن ان يقوم الآباء او اي شخص راشد بتشجيع سائر الاطفال على المشاركة المباشرة في القراءة وإضافة شروح وتعليقات من قبلهم على الرواية.
وفيما تمضي الام معظم اوقاتها مع الاطفال من المستحسن ان يمضي الآباء المزيد من الوقت في ممارسة القراءة مع اطفالهم.
ولا ننسى ان الاب هو المثال الاعلى في نظرهم. لذا يفرح الاطفال عندما يقوم الوالد بقراءة القصة بصوت مرتفع مقلداً اصوات الشخصيات بشكل فكاهي او تراجيدي حسب دور كل شخصية في الرواية. وفي حال توفر اكثر من نسخة واحدة يستحسن المشاركة في القراءة مع الاطفال. فهذا يساعدهم على التفاعل الايجابي والتقارب والتماهي مع صورة الاب المثالية.
5 – اضافة روح الفكاهة على القراءة.
قد يكون المرح من الاساليب المفضلة للتعلم. اذ ان اضافة روح الفكاهة عند قراءة الرواية يجعل هذه العادة (القراءة) امراً محبباً للاطفال.
ولا نتناسى ان التلفزيون والانترنيت والمعلومات الجاهزة للاستعمال هي متوفرة لجميع فئات الناس، وهذا امر مستحسن، لكن الخوف الكبير ان نخلق جيلاً من رجالات وسيدات المستقبل يكتفون بما هو متوفر وجاهز، دون عناء التفكير، مما يحد من امكانية الابتكار الخلاق لديهم ويحولهم الى طبقة قابلة ومستوعبة ومطيعة دون ان تتساءل حول صحة ومصداقية ما يقرأون..
ولا ننسى ان تكرار الامور الصالحة يخلق عادات وشخصيات ومثل صالحة… لأن في الإعادة إفادة.