رؤوف قبيسي
أستهل مقالتي هذه بتقديم الاعتذار للملحدين والعلمانيين، وجماعات المجتمع المدني من القراء، أي المواطنين غير الطائفيين، لاستخدامي عبارات من نوع «المسيحيين» و«المسلمين». ما حيلتنا وقد فرض لبنان الطائفي الإقطاعي علينا هذه الأوصاف والتسميات الفارغة من معناها، التي دخلت قاموسنا السياسي والإجتماعي والثقافي وأصبحت من معايبنا.
أضع علامات الإزدواج حول هاتين الكلمتين وأقول الفارغتين من معناهما، لأدلل على أن لا معنى روحياً لهما، لأن ليس كل مَن ولد في عائلة «مسيحية» يكون في الضرورة مسيحياً حقاً، والشيء ذاته ينطبق على مَن ولد في عائلة «مسلمة». هناك من الملحدين والعلمانيين، مَن هم أقرب إلى الناصري ونبي الإسلام، من بشر يدخلون الكنائس والمساجد، ويقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون أو مسيحيون! يقول «المسيح» في الإنجيل: «ليس كل من يقول لي: يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات». وفي القرآن آية «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم».
إذاً، هناك فرق بين مَن ورث دينه أو مذهبه عن أبويه وبيئته، ومحايد غير متدين، يقرأ الأنجيل والقرآن ويتدبرهما بصفاء ويأخذ منهما ما يجعله، إن هو شاء، مؤمناً وساعياً للخير، وإذا لم يكن الخير هو الهدف من «الرسالات السموية»، فلا معنى لأي دين، حتى لو كان عدد أتباعه بالملايين.
في الغرب وفي إنكلترا خصوصاً، رجال دين مسيحيون لا يعتقدون بالمسيح المجسد، ولا يعتقدون بولادة المسيح من عذراء، ومنهم مَن يشكك في وجود شخصية تاريخية اسمها يسوع الناصري، مع ذلك يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون. من هذا المنطلق يمكن أيّ امرئ ينشد الجوهر، أن يصف نفسه بأنه مسيحي ومسلم في الوقت نفسه، حتى لو قادته تأملاته إلى الإلحاد. وإذا كنا نحتاج في الهداية إلى مجموعة من القيم، فلا ضير أن نأخذها من «المسيح» القائل: «كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل»، وأن نأخذها من القرآن الذي تقول آياته: «فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث»، من دون أن ننسى مصادر أخرى وضعها خيّرون، مثل كتب الحكمة الصينية والهندية، وكتاب صغير جذاب مثل كتاب «النبي» لجبران خليل جبران.
الشيء المهم في أي رسالة، مقدار ما فيها من خير، وليس تاريخ نمو هذه الرسالة وانتشارها. ليس المهم تاريخ الإسلام ولا تاريخ المسيحية، وعدد المعتقدين بهذه الديانات، علماً بأن في تاريخ هاتين الديانتين ما يشين الجوهر. كلنا يعرف الآثام التي ارتكبتها المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية في الشرق والغرب، وكيف وقفت الكنيسة إلى جانب الحكام والملوك والأباطرة، عندما وجدت أن لها مصلحة في ذلك، وكيف استغلت البسطاء من الناس ووعدتهم بكراسٍ في النعيم، وكيف وقفت إلى جانب الحملات الإستعمارية في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وكيف لجأ الطغاة إلى الكنيسة لتبرير القتل وسفك الماء، ثم كانت الهدايا التي قدّموها إلى الكنيسة في ما بعد، أنهم أطلقوا أسماء دينية على المناطق التي استعمروها. هكذا فعل البرتغاليون في البرازيل، واتخذت أكبر مدن البلاد اسم سان باولو، أي مدينة القديس بطرس، وأخذت مدينة أخرى اسم سان سلفادور، أي القديس المخلّص، وحملت مدينة أخرى اسم بيلين أي بيت لحم، واكتسبت هالة مقدسة، إلى درجة أن بعض البسطاء من سكان البرازيل يعتقدون أن المسيح برازيلي وانه ولد في بيت لحم البرازيلية، ولا يعرفون شيئاً عن بيت لحم التي في فلسطين! في المقابل هناك الملايين من البسطاء حول العالم محسوبون على الإسلام، ويعتقدون بأشياء تشيب لها الرؤوس، وفي الفصول الممتعة التي عنوانها «رياح في شراعي»، التي كتبها سعيد تقي الدين يوم كان مهاجراً في الفيليبين وصف غريب عن مسلمي تلك البلاد في جزر المندناو، وتقاليدهم وعاداتهم، وكيف اختلطت هذه التقاليد والعادات بأشكال عجيبة غريبة من التدين.
قد تتساءل أيها القارئ الكريم لماذا هذه المقدمة الطويلة، وموضوع الحديث هو «مسيحيو لبنان» وموقفهم تجاه «الإسلام» الزاحف بسيوفه ونصاله؟ جوابي هو أن الدين عبر التاريخ يكرر نفسه في البيئات التي ترتفع فيها نسب الجهل والأمية والبطالة، وكلما زادت النسب، نمت الغرائز، واتخذت المؤسسات الدينية ومعها مستغلو الأديان أدواراً جديدة، تجلب العواقب الوخيمة على الأقليات التي تدين بأديان أو بمذاهب، تختلف عن أديان الغالبية من السكان ومذاهبها. هذا ما نشهده الآن في بلاد مثل العراق وسوريا واليمن، وهذا ما يثير ريبة «مسيحيي» لبنان وخوفهم.
ما الحل إذاً ليحمي «المسيحيون» أنفسهم من هذا «الإسلام» الزاحف بحرابه ونصاله، علما أن المشكلة لا تطالهم وحدهم، بل تطاول الفئات الأخرى من «الأقليات»، والعلمانيين واللاأدريين والملحدين، ودعاة المجتمع المدني كافة؟
الحل الوحيد لهم هو في الدولة المدنية. قد تتساءل أيضاً أيها القارئ الكريم، لماذا هذا الخطاب إلى «المسيحيين» وحدهم، وليس إلى «المسلمين»، ولماذا دعوتهم إلى المطالبة بدولة مدنية، مع أنهم أكثر قبولاً لفكرة هذه الدولة من «المسلمين»؟ الجواب هو أن «المسيحيين» يشعرون هذه الأيام بنوع من الأخطار لا يشعر بها «المسلمون»، ويتحسرون على لبنان الصغير المحبب، الذي كانت لهم فيه امتيازات وسلطات، صارت الآن في يد غيرهم. ثم إن دعوة زعمائهم لاسترداد هذه الحقوق، ثقافة طائفية قد تكون دواءً ملطفاً لمعاناتهم في المدى الزمني القصير، لكنها لن تكون حلاً لمشكلتهم في المدى الزمني البعيد، ولن تكون حلاً لمشكلة لبنان، بل ستزيد شؤونه تعقيداً.
في الماضي ركن «المسيحيون» إلى فرنسا «ألأم الحنون»، وبعد رحيل فرنسا عن الشرق، ركنوا إلى الامتيازات التي كانت لهم، وأساء زعماؤهم استخدام السلطة، واستغلوا العصبية «المسيحية» لمواجهة العصبية «الإسلامية»، ودخل الجميع في أتون حرب أهلية قضت على الكثير من البشر والحجر، إلى أن أصبح «المسيحيون» يخافون على أنفسهم، وصار زعماؤهم يستغلون الأوضاع بالحديث عن الحقوق المهدورة، والدعوة إلى إسترجاع ما كان لـ»المسيحيين» من امتيازات.
لا يحق لـ»مسيحيي» لبنان أن يخافوا من الزحف «الإسلامي» عليهم إذا أصروا على اعتبار المسيحية هويتهم الأولى، لأنهم بذلك يخلطون الدين بالسياسة، ويفعلون ما يفعله الآخرون من غلاة «المسلمين». لكن يحق لهم أن يخشوا هذا الزحف إذا اعتبروا أنفسهم لبنانيين وطنين في المقام الأول والأخير، أي مواطنين في دولة مدنية. عند ذلك لن يكونوا وحدهم في مواجهة هذا التنين «الإسلامي» المسنن بالحراب، بل سيشاركهم فيه الكثيرون من «المسيحيين» الآخرين، ومن فئات الشعب المؤمنين بالدولة المدنية، كحل لا حل غيره لهذا البلد الصغير، المعذب في تاريخه وجغرافيته.
لو تعلّم «مسيحيو« لبنان من فرنسا ثقافتها العلمانية، وإرثها الحضاري، قدْر تعلّمهم لغتها، وعملوا على بناء دولة لبنان المدنية على غرار فرنسا العلمانية العظيمة، لما وصل لبنان إلى هذا الوضع البائس الذي يشكو منه الجميع، «مسلمين» و«مسيحيين». لكنهم، أي «المسيحيون»، آثروا التقوقع، وأخذ زعماؤهم بالعصبية الدينية كما فعل زعماء «المسلمين»، بل تفوّقوا عليهم في خلط الدين بالسياسة والوطنية، فابتدعوا عبارة «مجد لبنان أعطي له»، أي إلى بطريرك الموارنة، وصارت «مريم البتول» «سيدة لبنان»، وأسبغوا على أرز لبنان «قداسة توراتية» وسمّوه «أرز الربّ»، وهذه ليست في الأناجيل، ولا في أعمال الرسل، ولا في العهد القديم، بل إن ما جاء في العهد القديم عن أرز لبنان لا يشرّف أرزه البتّة، وفي بعض الشروح اللاهوتية هو شجر لا يثمر، رمز للوثنية يجب كسره، كما في سفر المزامير القائل: «صوت الربّ مكسّر الأرز، ويكسّر الربّ أرز لبنان»، وذهبوا بعيداً في «الفينقة» إلى حدّ صارت «العروبة» عند كثيرين منهم بعبعاً، مع أنهم عرب أقحاح أكثر من «المسلمين»، وما ذلك إلا للحفاظ على «طابع لبنان المسيحي»، حتى أن بطريرك الموارنة الحالي صرّح وهو في طريقه إلى سوريا، بأنه ذاهب إلى هناك لتفقد أحوال «شعبه»، ولم يكن شعبه هذا الذي عناه إلا «مسيحيي» سوريا!
ما الفرق إذاً بين بطريرك الموارنة وكلام السيد حسن نصر الله، الذي صرح بأن من أهداف ذهابه إلى سوريا حماية مقام السيدة زينب، وبين كلامهما وكلام السيد وليد جنبلاط عندما كان يتحدث عن «دروز» سوريا الذين لاقوا حتفهم على يد جحافل «داعش» في منطقة السويداء؟!
لا فرق البتة. كلها مواقف سياسية متساوية تكرّس السلطة الدينية على حساب الدولة المدنية الإنسانية، مع أن الدولة المدنية هي الدولة «الوحيدة» التي تحفظ الإيمان وحقوق الناس في أن يعبدوا ما يشاؤون، وهي وحدها التي تحفظ المعابد، والآثار الدينية، وكتب التراث الديني من التلف والضياع. ولو لم يقيّض للعرب و«المسلمين» عقول علمانية من الغرب، لما عرفوا الكثير عن تاريخهم وحضاراتهم، ولقد قيّض لي شخصياً أن أزور المعهد البيروني في طشقند، عاصمة أوزبكستان، وأقضي فيه ساعات طويلة خصبة، أطوف بين أروقته وأتحدث إلى مديره، وأكتشف، أنه لولا العقول والأموال الروسية، لما حُفظ العدد الكبير من المصاحف والكتب الإسلامية التي في المعهد، وهذا كان يتم في وقت كان الإسلاميون ولا يزالون، يعتبرون الروس ملاحدة وكفرة!
لا حل أمام فئات الشعب التي تسمّي نفسها «مسيحية» وتريد أن تدرأ عنها خطر الزحف «الإسلامي» المسنن، إلا الدولة المدنية، التي هي دولة الإيمان البديلة من دولة الدين والطوائف، والمظلة الكبيرة الوحيدة التي تحمي الجميع، وتصون حقوق الجميع، بغض النظر عن اللون والعرق والعقيدة. لا بأس أن تقرع الأجراس ويؤذّن المؤذنون، إذا كان هناك قانون مدني عام واحد يسري على الجميع، ويمنح المناصب والوظائف لكل من هو أهل لها. هناك مواطنون ملحدون وعلمانيون ولاأدريون، لا يستسيغون أن يسمّى شعار علم بلادهم «أرز الرب» (وأي رب!)، ولا يستسيغون أن يعطى مجد بلدهم لرجل دين مهما كان شأنه، وهناك فئات «شيعية» لبنانية لا ترضى بأن يمثلها رئيس مجلس النواب «الشيعي»، وفئات «سنّية» لا ترضى بأن يمثلها رئيس الحكومة «السنّي»، وفئات مسيحية لا ترضى بأن يمثلها رئيس الجمهورية «المسيحي»، لكن الجميع يرتاحون إلى رؤساء ينتخبهم الشعب في دولة مدنية.
من «المسيحيين» من قد يخشى الدولة المدنية بحجة أن عدد «المسلمين» يزداد، وأن مقام الرئاسة الأولى قد يتحول إلى «مسلم» ولا يبقى حكراً على «المسيحيين»! ليطمئن هذا «المسيحي» الخائف، إلى الدولة المدنية، ففيها تتراجع معدلات الإنجاب، وهي دولة لا تنتج سياسيين طائفيين، وخير له وللجميع أن يكون رئيس البلاد مدنيا علمانياً، بغض النظر عن اتجاهه الروحي، وخير له أيضاً أن يكون ملحداً منفتحاً، على أن يكون «مارونياً» مغلقاً، لأن حصر الرئاسات برئيس «ماروني» وآخر «شيعي» وآخر «سنّي»، معناه أننا سنبقى في دولة الطوائف والقبائل. أما هذا الخوف الدفين الكامن في نفوس شريحة كبيرة من «مسيحيي» لبنان، فليس إلا نتيجة طبيعية من نتائج دولة طائفية إقطاعية عنصرية جلبت الويل عليهم، وعلى فئات الشعب اللبناني بأكمله.
هل تعرف أيها القارئ الكريم أن أقوى مرشَّحين لتسلم مقاليد منصب رئيس بلدية لندن، واحد يهودي مرشح عن حزب المحافظين اسمه زاك غولد سميث، وآخر مسلم ابن سائق باص من أصل باكستاني عن حزب العمال، اسمه صادق خان؟ هل تعرف أنه لم يعترض مواطن بريطاني واحد من سكان المملكة المتحدة «المسيحيين» البالغ عددهم نحو 65 مليون نسمة، على هذا المرشح «اليهودي» وذلك المرشح «المسلم»، بسبب دين كل منهما؟ السبب أن بريطانيا دولة محكومة بقوانين مدنية، لا يؤثر فيها المذهب الروحي لهذا السياسي أو ذاك.
أين نحن من البريطانيين، وأين لبنان من بريطانيا؟ أين بيروت الصغيرة من لندن العريقة، مدينة المال والأعمال، وعاصمة اللغة الإنكليزية والثقافة الإنكليزية في العالم، يترشح لرئاسة بلديتها «يهودي» وآخر «مسلم»، فيما نحن في لبنان، «بلد الحضارة التي عمرها ستة الآف سنة» نخشى أن يتسلم مقامات الرئاسات عندنا مواطنون لا تحسب المناصب عليهم بسلّم الطوائف؟ ثم من نحن حيال فرنسا العظيمة التي حكمها في أحد الأيام «يهودي» اسمه نيقولا ساكوزي، وأميركا «البروتستانتية» الجبارة التي حكمها يوماً رئيس «كاثوليكي» اسمه جون كينيدي، ويدير بيتها الأبيض اليوم، حاكم أسود اسمه باراك حسين أوباما!
إنها عقدة الخوف، الذات «المسيحية» اللبنانية التي لا تنفك تخاف على نفسها من الذوبان. ذات أسيرة من تاريخ حافل بالخوف والعقد، لم يحدث مرة أن ارتاحت لفترة طويلة، حتى عندما كانت في يدها مفاتيح الحكم، وقد بلغ بها الخوف حداَ جعلها تولّد الخوف لدى فئات أخرى من الشعب، «سنة» و«شيعة» و«دروزاً».
لكن، هل تدرك هذه الذات «المسيحية» أنها ليست على حق في مقاييس العدل، إن هي انتقدت، أو تهربت، أو خافت من عصبية «المسلمين»، ما دامت تأخذ بعصبية شبيهة بعصبية الغلاة منهم؟ هل تدرك أنها ستكون بعيدة جداً عن رسالة «يسوع» القائل لتلاميذه: إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم؟
فما هي إذاً، هذه الرسالة الإنسانية الجديدة التي يتعين على «مسيحيي» لبنان أن ينشروها بين أخوتهم في الوطن، وتكون الدرع الحصينة لحمايتهم، وحماية رسالتهم الروحية، وحماية وطنهم من الأخطار؟
هناك حل واحد لا حل غيره، وهو الدولة المدنية. واهمون هم الذين يظنون أن هناك حلاً آخر. لقد توصل الغرب إلى هذا الحل بعد صراع مزمن بين العقل والغريزة، بين التدين والإيمان، والذين يعرقلون قطار هذا الحل في لبنان اليوم، من رجال الدين والسياسة مجرمون، وسوف يذكرهم التاريخ على أنهم كانوا رجعيين وسفاحين وقتلة.
الدولة المدنية ليست دولة الدين والمذهب، بل دولة الإيمان والحرية الدينية، وقوانينها المدنية تصون حقوق الجميع، وهي الدولة الوحيدة التي تحفظ الكتب والآثار الدينية من التلف والضياع، ومن عسف العصبيات القومية والفرق الدينية. لا أحد يمكنه أن ينكر دور التعاليم الدينية، مسيحية أكانت أم إسلامية أم بوذية، في إغناء التراث الثقافي والروحي للأمم. لا أحد ينكر ما قدّمه الإسلام في الأندلس وغير الأندلس من جمال العمارة، والنقوش والزخرفة، وما قدّمته كاثوليكية الغرب من تماثيل ورسوم ونقوش وصور تخلب العقول. تكفي اللوحات المعلّقة على جدران المتاحف، تكفي مباني الفاتيكان، وتكفي مدينة مثل روما التي تضم 450 كنيسة، مزينة بأجمل ما أخرجه عباقرة الفن القوطي والباروكي وفنون عصر النهضة. لكن هذه التعاليم الدينية يمكن في الوقت نفسه أن تكون معول هدم، وعاملاً مسبباً للصراعات إذا التحمت بالجهل، أو استغلت، أو أسيء استخدامها، كما حصل في غير مكان من العالم، وكما يحدث الآن في هذا الشرق العربي البائس، حيث تنمو العصبيات الدينية كالفطر، وكما حدث في تاريخ لبنان القديم والحديث.
فيا «مسيحيي» لبنان، «ملح الأرض أنتم» كما وصفكم أب من آباء الكنيسة. إذا أردتم أن يكون لبنان وطن «المسيح» لا وطن «المسيحيين» فعليكم، وأنتم من أكثر الناس علماً وثقافة في هذا الشرق، أن تدعوا إلى دولة مدنية، تكون لكم درعاً حصينة، وفيها يصبح شركاؤكم «المسلمون» مسلمين حقاً، لأن في هذه الدولة وحدها تتلاشى الغرائز القبلية والعشائرية، والعصبيات الدينية، وهذه ليست إلا ضرباً من ضروب الكفر والتخلف، ونقيضاً للإيمان الصادق. هذه الدولة ستحرركم، وتحرر أخوانكم «المسلمين» في الوطن، الذين قد يضحون ضحية إسلام سياسي لا يعرف الضوابط، ولا فرق فيه بين «داعش و«الأخوان» إلا في الدرجة، لا في النوع، ولأن التجارب أثبتت أن أي إسلام يأخذ بالسياسة، لا بد أن يأتي يوماً ويتطرف.
إذا تأمنت لكم هذه الدولة، لن تلجأوا بعد إلى الأديرة وبطون الجبال، كما فعل آباؤكم وأجدادكم عبر العصور. لن تهاجروا بعد، ولن تحتاجوا إلى الحماية من شقيق أو شقيقة، لا من الفاتيكان ولا من أمّ حنون من هنا أو من هناك، لأن الدولة المدنية المرتجاة، ستكون لكم ولشركائكم في الوطن، كما الكنيسة، أو البيعة التي قال «المعلم» لبطرس، إن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. ستكون وطناً عزيزاً يطعمكم من جوع ويؤمنكم من خوف، ويصالحكم مع أنفسكم، ويجعلكم مواطنين أحراراً من أمة حرة قوية.