طلال مرتضى
لحظة من فضلك..
بعد سطر سوف تدخل صومعة النبي، توضأ من هذا التراب قبل أن تدلف محرابه، كفَّ عن الجلبة لتستمع إلى تراتيله، علك تتعظ، تصحو من غيبوبتك، أيها اللبناني، أيها العربي، أيتها الإنسانية جمعاء.
ــ كيفك يا مريم.
ــ أنا منيحة وإنت بسلام؟.
ــ كيف لبنان يا مريم؟.
ــ مرتاح.
ــ عم تكذبي يا مريم.. ما إنتِ ما بتكذبي؟!.
هناك حيث كنت أسترق السمع، وادٍ جليل يلفُّه ضباب ناعم، تخترقه بعضٌ من أشعة شمس تريد التقرب إليه، لقد حباه الخالق بإبداعٍ من رحم إبداع, كل شيءٍ هنا خيالي، أنت الآن في حصن جبران ومصدر إلهامه.
الأديبة اللبنانية «مريم نصار» توقع كتابها الثاني «عصفورة على خصر البيلسان» بعد روايتها السابقة «جمال الياقوت وعاجي الشعر» الصادرتين عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع 2015- بيروت.
تنطلق الكاتبة من فكرة توثيق الذاكرة الإنسانية، خصائص الأمكنة التي رصدتها وعلاقتها بالذاكرة، بمعنى أعم تعيد تأثيث هذه الذاكرة بطريقتها هي، عبر سبر العلاقة مع التاريخ البعيد والقريب من وجهة نظر خاصة قد نتلمسها في طريقة السرد الشائق، والذي يشغل القارئ العليم حين تتفتق في ذهنه الأسئلة الملحة، وهي التحقق من ما ورائيات العلاقة بالمكان من حيث السيرة أو التاريخ أو المقولة على ضوء مقولات الرواية؟.
هل وصف مكان ما له علاقة بمعطى زماني أو قيمي أو مجرد وصف عابر؟.
حسب الكاتبة تقول: هي ليست أسطورة كما أساطير «جلجامش وطروادة ومولان وأليسار»، بل هي حقيقة لها آثارٌ باقية وجروحٌ لم ولن تلتئم على مر الزمان، قصص حكت عن الأجداد، دارت بين جبل «صنين وأرز الشوف»، فوق جسر «اللوزية» بالقرب من تلك الصخرة التي تشبه وجه صياد قديم، قمر فوق تل وجبل بعيد».
استجلاءً تنحو الكاتبة في نثيرها إلى أدبيات سيرة الرحلات، والتي أفضت فيما مضى إلى أسماء كبيرة، خلدها التاريخ، أمثال ابن بطوطة، أحمد بن فضلان، ابن جبير، محمد الإدريسي وكثيرون، وهو أدب عُمل به منذ القرن التاسع الميلادي، وتقوم موضوعاته على الرحلات، ويُكتب بلغة أدبية خاصّة لها خصائصها التي تميّزها عن التسجيلات الجغرافية التي تتصف بالأسلوب العلمي، يعنى أساساً بالرحلات الواقعية ذات المُحددات المكانية والزمانية.
وفي استكشاف شائق عن نهر العاصي تقول: نهر العاصي، النهر الذي مشى عكس الحياة، النهر الذي تحدى مجرى الكون، والذي يتفرع من عدة ينابيع في لبنان، اتخذ الجبال والسهول درباً صوب الشَّمال، يحطّ في سورية، في مدينة «الرستن»، ثم يكمل طريقه إلى مدينة «حماة»، حيث النواعير الخشبية العتيقة بأشكالها وأحجامها، مكملاً طريقه إلى «جسر الشغور»، متجهاً شمالاً إلى الحدود التركية في منطقة
«دركوش»، ثم يكمل إلى لواء إسكندرون حيث يعانق هناك البحر الأبيض المتوسط، منهياً قصة حب، بدايتها الينابيع وأوسطها الجبال وآخرها البحر، معلناً بدء قصة عشق سرمدية في حنايا اللج العظيم.!
يقول «شوقي ضيف» عن أدب الرحلة عند العرب: خير رد على التهمة التي
طالما اُتّهم بها الأدب العربي، تهمة قصوره في فن القصة.
«عصفورة على خصر البيلسان»، سيرة توثيقية لواقع متصل منفصل، تدلي تيماته بمضمره، من خلال العودة خلفاً لاستنباط والعمل على تأثيث الذاكرة السالفة في وجدان أبنائنا: جاءت الأميرة هاربةً مع أصحابها من مدينة صور في لبنان، (أليسار ابنة ملك صور) وسموا المدينة «قَرْتْ حَدَشْتْ» بمعنى «المدينة الجديدة» (من الفينيقية: قَرْتْ أي مدينة، وحَدَشْت أي حديثة)، فأصبح الاسم «قرطاج» باللاتينية.
وعلى الرغم من أن الكاتبة اتكأت على الأسطورة لتأصيل بعض حكاياتها، ألا أنها تعود ذات مقال بأنه: تبقى الأسطورة قصة مبهمة بلا نهاية، لا نعيشها إلا في دنيا الخيال.
في بداية النهاية تطوي منجزها وهي تتغنى بمعشوقتها الغالية: عِندما أكتب عن بيروت، هذا يَعني أنني أتغزَّل بـ «بيريت»/ هي الرَّقيقة الجَميلة التي أنتمي إليها/
كل وترٍ من روحي هو شُعاع من شعاعِ بيريت/ كل حرف من حُروفي هو رنَّة خلخالٍ من آرامية بيريت/ وكل تنهيدة تخرج مني أرسلها عبقاً حتى تحيا بيريت/
كم أعشقك يا بيريت/ يا أصل لبنان/ يا رمز الخلود والصمود/ يا أرض العُشاق يا معشوقة الفن والأدب.