أسعد الخوري:
في الطائرة التي كانت تقلّ أسبوعياً راكبين استثنائيين هما البروفسور مايكل دبغي والبروفسور فيليب سالم، من هيوستن الى واشنطن باعتبارهما عضوين في اللجنة الصحيّة في البيت الأبيض، في عهد الرئيسين بوش الأب وكلينتون، كان الطبيبان اللبنانيان يتحدّثان في الطائرة عن بلدتيهما: دبغي من مرجعيون، وسالم من بطرام من أعمال الكورة.
كان دبغي يبدي إعجاباً شديداً بقيم القرية اللبنانية وبالمفاهيم الإنسانية التي تحكمها انطلاقاً من نظرة والديه المهاجرين الى الولايات المتحدة الأميركية. أما سالم فكان «يشرح» لزميله الذي أصبح أقرب أصدقائه، أهمية هذا البلد الصغير، الذي يسمّونه «بلاد الأرز» وتأثير القرية وأسلوب العيش فيها. كانت «ساعات حلوة ومفيدة» كما يصفها سالم، استطاع خلالها أن يقنع زميله بزيارة لبنان لتفقّد ضيعته مرجعيون ولمعرفة «حقيقة لبنان عن كثب».
عظيمان يتحاوران حول أهمية لبنان. صحيح أنّ فيليب سالم أكثر معرفة بأحوال بلده، بجباله وسهوله وقراه وبعاصمته بيروت، وهو الذي عاش شبابه فيها حيث درس في الجامعة الأميركية وتخرّج طبيباً، خلافاً لمايكل دبغي المولود في الولايات المتحدة، الذي لا يعرف من لبنان سوى ما نقله إليه والداه من قصص وحكايات. عاش دبغي مع اهله سنة واحدة في مرجعيون وذلك عندما كان عمره عشر سنين. إلى أن أقنعه سالم بزيارة لبنان حيث أُعجب دبغي فعلاً بعظمة هذا البلد الصغير وبجماله الطبيعي.
فيليب سالم مذ كان طفلاً، عاش القرية اللبنانية بكل جمالاتها وبساطتها وعفويّتها: «طفولتي كانت مفعمة بالحنان والغنى على الصعيد النفسي. طفولتي في بطرام لا أبدلها بأي شيء أينما كنت ومهما أصبحت. لن أنسى أبداً من أين أتيت. بطرام هي لي كساعة غرينتش في العالم، فكما غرينتش هي محور التوقيت للعالم كلّه، فإنّ بطرام هي محور العالم كلّه لي. إنها المركز الذي أدور حوله، وأقصد لبنان كلّه والعلاقة مع الأرض والناس. منذ صغري إلى الآن، لديّ أصدقاء لم يذهبوا الى مدارس ويتعلّموا، لكنّهم الأقرب إليَّ. لأنّه في أعماقنا أهم شيء في الدنيا هي المحبة التي تجمع الناس. الشعور بالراحة مع الشخص الآخر، ونفسي لا ترتاح في أي مكان من الأرض كما ترتاح في بطرام وفي لبنان».
درس سالم وعمل لسنوات في الجامعة الأميركية ببيروت ثمّ غادر ثانية الى الولايات المتحدة، بعدما عاش أعواماً طويلة صعبة من فصول الحرب اللبنانية، آثر خلالها السفر بعدما أصبحت حياته وحياة عائلته في خطر. هل حصل «اصطدام» في مقرّه الأميركي الجديد بين مفهومين وعقليتين؟ وهل كان لذلك أثر في وجدان سالم الإنساني والعلمي؟ «اصطدام» كلمة قويّة، يقول سالم: عندما ذهبت إلى أميركا للتخصّص أولاً، ثمّ بعد سنوات طويلة للعمل، فوجئت بحجم الهوة الحضارية بين لبنان وأميركا. أغالط من يظنّ أنّ حضارتهم أفضل من حضارتنا. الحضارة الغربية تفتقر إلى أشياء عظيمة موجودة في حضارتنا. الصداقة والنخوة والشهامة ليست من قيمهم، والنبل والدفء الإنساني والحنان كلّها عناصر ليست من قيمهم. لذلك علينا أن نعود إلى أنفسنا ونبحث عن أشياء عظيمة نمتلكها ونحميها من الاندثار. تاريخنا في الشرق يشهد مراحل عديدة من التدمير الذاتي. نحن ندمّر كل شيء جيّد كالطبيعة والقيم الإنسانية والأخلاقيّة، مثلما ندمّر دولاً ومجتمعات. كما ترى الآن دُمّر العراق ودُمّرت سوريا، ولبنان عاش مرحلة طويلة من التدمير. هذه الأمور لم تكن مسؤولية الغرب والآخرين ربما، بل مسؤوليّتنا لأنّنا لم نبن دولاً بل شعارات فارغة. ما أودّ قوله أنّ لدينا أشياء عظيمة في حضارتنا يجب الحفاظ عليها وصونها وتنميتها، في المقابل هناك أشياء عظيمة في حضارة الغرب وهي احترام الانسان والعقل والعلم. أعتبر نفسي محظوظاً بشكل كبير لأنّي نلت فرصة لم ينلها الكثيرون، حيث استطعت دمج أعظم ما أتيتُ به من الشرق مع أعظم ما تعلّمته من الغرب. هكذا أصنع حضارة من مزيج الشرق والغرب، هي الأعظم والأعلى والأرفع من كلتا الحضارتين».
المعرفة وعظمة الخالق
العلم يتطوّر بسرعة هائلة والعلماء يعملون ويقدّمون نظريات جديدة وأبحاثاً. قفز معدّل عمر الإنسان لأنّ العلم لعب دوراً كبيراً. ولكن ما مدى قدرة العلم على إطالة عمر الإنسان، وهل خلايا الإنسان قادرة للتطوير الى ما شاء الله؟ فيليب سالم، الطبيب والباحث، درس جسد الإنسان واكتشف أنّ المعرفة المتصلة بخلية (Cellule) الإنسان، لا حدود لها وهي لا تزال قليلة جداً: نحن نعرف ما نسبته 0,1 من الألف عن جسد الإنسان وعملية الخلق. لذلك كما قال ابن سينا «لقد درست الطب لأفهم الله». وأنا أقول الشيء نفسه. درست الطب ليس لأفهم الله فقط بل لأفهم الإنسان أيضاً. العلم قادر أن يطيل حياة الإنسان إلى مدى معيّن لأنّ الموت محتّم. هذه الخلية تعمل بكومبيوتر من الجينات. الإنسان يكون جنيناً ثمّ طفلاً ثمّ شاباً وبعدها يكبر أكثر ليصبح عجوزاً ومن ثمّ يموت. هذا النظام الكوني لن يتغيّر، سيبقى ولن يتغلّب عليه الإنسان. حين تصل الى اكتشاف أسرار هذا الكون الكلية تبطل الحياة. الحياة مخلوقة بطريقة أن يبقى الإنسان دائماً على مسافة واحدة من المعرفة الكلية. يعطي سالم مثلاً عفوياً من زمن الطفولة والضيعة: حين كنتُ صغيراً كنت أظنّ أنّ الشمس حين تغيب تذهب إلى النوم. وكنتُ أسأل جدّتي لأبي، أين تنام الشمس فتجيبني: خلف الهضبة! كنتُ أذهب أنا وأصدقائي إلى الهضبة لنرى أين تنام الشمس، فلا أجدها. أعود إلى جدّتي وأخبرها أني لم أجد الشمس، فتقول لي إنّها خلف الهضبة الثانية. وهكذا. تبقى الشمس على مسافة واحدة منّي. تذهبُ وأنا أركض خلف الهضبات بحثاً عنها. هكذا هو العلم. كلّما ازددت علماً تبقى على مسافة واحدة من المعرفة الكليّة الإلهيّة.
يقول: هؤلاء الذين لا يؤمنون بأنّ عمليّة الخلق آتية من خالق عظيم فوق طاقة عقولنا هم في رأيي لا يعرفون كثيراً عن الخلق. لا يمكن أن تدرس عمليّة الحياة سواء للنبات أو الحيوان أو الإنسان إلاّ أن تنتهي راكعاً أمام عظمة الخالق. أعطيك مثلاً على ذلك: لديّ صديق إسمه فرنسيس كولنز هو من أهم علماء أميركا وكان ملحداً. عمله هو دراسة الجينات وكان رئيساً للفريق الذي رسم خريطة الجينات عند الإنسان. وهذا كان أهم إنجاز علمي في القرن العشرين. بعد عشر سنين من الدراسة المعمّقة في الجينات انتهى فرنسيس كولنز مؤمناً، ونشر كتاباً رائعاً جداً اسمه «الجينات هي لغة الله» THE LANGUAGE OF GOD. لأنّه رأى كيف يعمل جسد الإنسان وحده مهما كانت انفعالاته من حزن أو فرح أو تعب. هذه الخلايا تتعامل بعضها مع بعض بعظمة بدون معرفتك وإرادتك. هذا الجسد مُنح لك من الله وأنت لا تعرف عنه أكثر من صفر في المئة. أنتَ لا تملك القدرة على تشغيل جسدك الذي هو قسم من عملية الخلق العظيمة. لذلك احتراماً لهذا الخالق العظيم وتمجيداً لمجده وكرمه، علينا أن نحبّ بعضنا بعضاً ونعانق بعضنا بعضاً، ولو اختلفنا لا يجوز أن نذهب إلى الخلاف. الجسد، أي الحياة، من مسؤوليّتنا أن نحافظ عليه.
العلم والايمان
العلم قائم على الأرقام والاختبار والأبحاث. الايمان قائم على غيبية ما. إلى أيّ مدى يربط سالم بين عقلانية العلم وغيبية الايمان؟ يقول الطبيب العالم والمؤمن في آن واحد: ليس لديّ مشكلة في هذا الموضوع. لا بل أقول إنّه كلّما غصت في المعرفة ازددت ايماناً واقتربت من الله. كذلك كلّما غصتَ في المعرفة اقتربتَ من أخيك الإنسان. هل رأيتَ عالماً يطلق النار على عالم آخر؟ بالتأكيد لا. «العلم يجمع والجهل يفرّق». وأحبّ أن أقول شيئاً مهماً في هذا الإطار. ليست المعرفة فقط التي تقودكَ الى الايمان. بل أقول إنّ هناك شيئاً جذرياً وراديكالياً هو أنّ الإيمان الناتج من عمق المعرفة قد يكون مراراً أقوى بكثير من الإيمان الناتج من عدم المعرفة. كلّ الناس يقولون لك إنّهم مؤمنون. ولكن من يؤمن بالله بعد أن يدرس عمليّة الخلق والحياة يختلف عن الشخص الذي يؤمن بشكل سطحي. السؤال بماذا تؤمن؟ «أنا أؤمن بخالق، أؤمن بإله واحد آمن ضابط الكلّ خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى…». كل ما نحتاجه هو هذا الايمان الذي يجمع ويقودك الى محبة الآخر. أنظر الى ما يحصل في الجانب المتخلّف من الايمان مثل «داعش» الذي يعتبر نفسه محتكراً الله ويكفّرك. هذا يعتدي على الله.