د. رغيد النحّاس
أطربت مقتطفات من «رباعيّات الخيّام» بصوت أم كلثوم، ولا زالت، عشّاق الشعر والطرب الأصيل أينما كانوا… وكانت ترجمة أحمد رامي لها هي ما جعلها سلسة في متناول الملحّن رياض السنباطيّ الذي أضاف بروعة موسيقاه إلى عذوبة كلمات رامي الذي قال:
ســــــمعت صوتاً هاتفاً في الســحرْ
نــادى مــن الحــان غــفــاة الـبشــــــــــــرْ
هبّوا املؤوا كأس الطلا قبل أنْ
تـفـعـمَ كـــأس الـــعـمـر كــفُّ الـقـــدر
ومنذ نعومة أظفاري كنت أسمع التعليقات المختلفة حول ترجمة رامي مقارنة مع ترجمة أحمد الصافيّ النجفيّ الذي يُجمع معظم النقّاد على أنّها أفضل ترجمة لرباعيّات الخيّام، وهذا ما كان يبعث لدى عائلتنا الافتخار لأنّ النجفيّ كان صديقاً للعائلة، وكان أحياناً يبيت عندنا في زياراته لدمشق. و»أفضل» ترجمة تعني طبعاً تلك الترجمة الأمينة الوفيّة للمعنى الأصليّ. يقول النجفيّ في ترجمته للرباعيّة السابقة نفسها:
جاء من حــاننا الـنداء سحيـراً
يا خــلــيعاً قد هــام بـالــــحــــانــــــات
قم لـكـــي نــمــلأ الكؤوس مُـدامـاً
قبل أن تـمـتـلــي كـؤوس الحـياة
من الواضح أنّ كلام النجفيّ، الذي يجمع الضالعون من الفارسيّة على أنّه الأقرب إلى ما كتبه الخيّام، ليس بجمال كلام رامي الذي غيّر من بعض التفاصيل إرضاء للذوق وضرورة الشعر، على الرغم من أن كليهما نقل عمله عن الفارسيّة مباشرة. ويبدو أنّ أم كلثوم حين غنّتها استُبدلت فيها بعض الكلمات، فعوضاً عن «الحان» قالت «الغيب»، وبدل «الطلا» قالت «المنى»، لأسباب اجتماعيّة حسب ظنّي، فالمشكلة هي في التطرّق إلى تعاطي الخمرة، (ولكن لم تكن هناك مشكلة في تعاطي الحبّ، فجاء بصوت أمّ كلثوم: ?ما أضيع اليوم الذي مرّ بي / من غير أنْ أهوى وأن أعشقا!?) لكنّ هذا ما يزيد بُعدها عن الأصل الفارسيّ الذي أراده الخيّام. وأنوّه أنّ مثال رامي السابق قد يكون من أقل الرباعيّات التي ترجمها تحريفاً.
زاد مترجمو رباعيّات الخيّام إلى العربيّة عن الأربعين مترجماً، وليس قصدي الآن المقارنة «الأكاديميّة». الذي أرمي إليه هو الإشارة إلى أنّ أسباب «الترجمة» تختلف كما تختلف الآراء حول آليّتها. أتكلّم هنا عن الترجمة الأدبيّة، وأريد تثبيت رأيي بهذه العمليّة التي أعتبرها تشويهاً للأصل في أحسن الحالات إنْ كانت ترجمة أمينة، فكيف إنْ لم تكن؟ وهنا أستعمل كلمة «تشويه» بمعنى عدم تمكّن الترجمة من إعادة الأصل تماماً في اللغة المستهدفة، خصوصاً إذا أصرّ المترجم ترجمة الشعر بشعر، لأنّ العمليّة تصبح أكثر صعوبة بما تتطلّبه آليّة الأوزان والموسيقا الشعريّة، مثل إضافة أو تغيير الكلمات. وأعتقد أنّ الترجمة الأمينة يجب أن لا تبزّ الأصل. ليس من وظيفة المترجم أنْ يستعمل أفكار الكاتب الأصل ويطلع علينا بعمل إبداعيّ مختلف، بكلمات لا تمت إلى الكلمات الأصل بصله، وأفكار جديدة ما قصدها الكاتب. ليس من وظيفة المترجم برأيي أنْ يفكّر عن الكاتب، أو يعتبر أنّ مقصده هذا أو ذاك. هذا، مع العلم أنّ معظم المترجمين والكتّاب لا مانع لديهم من ذلك طالما أنّ العمل المترجم سيبدو جميلاً ويحظى بشعبيّة كبيرة، ما يعود بالفائدة على المترجم والكاتب معاً.
تعاونت مع شاعرة أستراليّة على ترجمة بعض أعمالها إلى العربيّة، وكانت دائماً حين نناقش المقصود من المعاني تطلق يدي في تغيير أو تطوير ما أراه مناسباً حتى لو خالف الأصل، طالما أنّه سيظهر للقارئ العربيّ بطريقة أفضل. كنت أستغرب ذلك وأرفضه لأنّني إنْ كتبت شيئاً لا أقبل أن يقوم أيّ مترجم بتحريف كلامي لا للأفضل أو الأسوأ.
والشاعرة نفسها، التي لا تتقن العربيّة، قامت بترجمات من العربيّة إلى الإنكليزيّة. الترجمات جيّدةً، لأنّه تيسر لها من يقوم بالترجمات الأصل، ثم تقوم هي، وهي شاعرة مقتدرة، بتهذيب العمل وصياغته مع ما يتناسب التعبير اللغويّ الإنكليزيّ. وبما أنّها من فصيلة أحمد رامي في اعتقادي، قامت باستخدام تعبير تقول إنّها ابتكرته وهو «trans-creation» (إعادة التخليق)، ما يسمح بالتغطية على أيّ خلل في أمانة الترجمة.
طبعاً هذا يؤكّد على أن هناك حرّية للحركة في «الترجمات» المعنيّة، لكنْ على الأقل يكون استعمال هذا التعبير إقراراً منها بالعمليّة، وأمانة في وصفها حتى لو افتقرت الترجمات إلى كامل الأمانة العلميّة. يعني هذه مجرّد طريقة في الترجمة يقبلها معظم الكتّاب والمترجمين والقرّاء. وهذا ما يُطلق عليه في العربيّة «الترجمة بتصرّف»، أيْ أنّ العمليّة موجودة أصلاً منذ أنْ وعينا على الدنيا، سواء استعملنا تعابير مثل «التخليق» أو «التصرّف» أو «النقل». وليس لديّ مشكلة إذا ما قام أحدهم باقتباس عمل وعرضه في قصيدة أو قصّة أو فيلم سينمائيّ، طالما يسميه اقتباساً، وليس ترجمة. أيْ أفضّل تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقيّة.
أنا أعتقد أن الترجمة «ترجمة». قد تكون الترجمة جيّدة أو سيّئة، والمعيار لذلك يجب أنْ يكون الأمانة العلميّة في النقل. يضاف إلى ذلك إخراج الترجمة في لبوس يلائم قواعد ومصطلحات اللغة المستهدفة دون تغيير المعنى. هذا يتطلب من المترجم أن يكون ضليعاً من اللغتين، الأصل والمستهدفة. ولو احتجتُ مثلاً لترجمة شيء عن الإفرنسيّة التي لا أتقنها (أنا شخصيّاً لا أقبل القيام بمثل هذا)، واستخدمت لذلك بعض من يتقنها، سأضيف أسماءهم إلى اسمي على كلّ عمل نقوم بترجمته. من غير اللائق إلغاء جهود الآخرين تحت شعارات برّاقة توهم القارئ أنّ العمل ترجمة هامّة، بينما هو مجرّد ترجمة، بل تشويه للأصل.
وفي واقعة أخرى، قمت بترجمات نثريّة وشعريّة لشخصيّة أكاديميّة مرموقة، خصوصاً على صعيد القصّة. سار كلّ شيء على ما يرام، مع العلم أن رأيي وأسلوبي في الترجمة كانا معلومين منذ البداية لدى هذه الشخصيّة، إلى أن ترجمت لها مرّة قصّة قصيرة. وبما أنّها تلمّ ببعض العربيّة، أرسلتُ لها مسودّة العمل كما كانت عادتي. فوجئت بمكالمة هاتفيّة منها، كانت كأنّني أتحدّث مع نمر كاسر يدافع عن أولاده، خلاصتها أنّ الترجمة بشعة جدّاً، دون أن تقدّم أيّ سبب موضوعيّ لذلك. وافقت معها وأكّدت لها أنّني لن أنشر تلك الترجمة. أعترف أنّني خجلت أنْ أذكّرها بما نشرْته سابقاً حول اقتناعي بأنّ الترجمة الأمينة تنقل العمل الأصل بكلّ محاسنه وعيوبه، وأنّ الأصل الذي كان بين يديّ، على الرغم من شهرة وشطارة تلك الشخصيّة، كان قصّة فاشلة مضموناً وأسلوباً بشهادة من راجع الأصل والترجمة معي. بعبارة أخرى، لم تكن الترجمة سوى مرآة لذلك الأصل. بالنسبة لي، كان هذا إثباتاً على أنّني أقرن القول بالفعل حين يأتي الأمر إلى الأمانة العلميّة في الترجمة.
لكنّني أقرّ مجدّداً أنّني قد أكون واحداً ممن يسبحون عكس التيّار السائد، لأنّني حين طرحت هذه الآراء في ندوة دعاني إليها مرّة مركز كتّاب نيو ساوث ويلز من ضمن فعاليّات مهرجانه السنويّ، وكنت، مع واحد من أهمّ المحرّرين الأدبيّين في أستراليا، ضيفاً استشاريّاً نناقش الحضور في أمور النشر والترجمة، تعجّب من آرائي تلك، وافترقنا على خلاف تامّ حول هذا الموضوع.
وأقرّ أيضاً أنّه على الرغم من صعوبة ترجمة الشعر بشعر، لا شكّ أنّ ترجمة الشعر بنثر، والتي قد تكون أفضل وسائل الترجمة الشعريّة، تتطلّب جرأة كبيرة لأنّ المتلقّي قد يعتبرها (من ناحيته النفسيّة) انتقاصاً من قيمة العمل، أكثر من أنْ يأخذ بعين الاعتبار الدقّة في الترجمة. ومن هنا يأتي شبه الإجماع على غضّ النظر عن دقّة المترجمين إذا أحسنوا إخراج عملهم من الناحية الجماليّة.
من أهم ما قرأت من ترجمات، برأيي، هو قيام الأكاديميّ البريطانيّ عبد الله العذري (Abdullah al-Udhary)، اليمنيّ الأصل، بترجمة نثريّة لقصائد من أعمال نساء عربيّات من العصر الجاهليّ إلى الأندلسيّ، فجاء كتابه، الصادر عن دار الساقي، غنيّاً مفيداً.
أمّا الذي دعاني إلى كتابة هذه المقالة فهو استماعي منذ مدّة قريبة إلى عريف ندوة يكرّر كلمة «trans-creation» في وصفه لما قدّمه مترجمو تلك الندوة من أعمال. ومن الطريف أنّ الشخص المعنيّ قال، في سياق حديثه/ها، ?نحن ندعو هذه العمليّة «trans-creation»?. استعْمَل «نحن»، حاشراً نفسه، مع العلم أنّه ليس لهذا الشخص في الترجمة لا ناقة ولا جمل.
أخشى ما أخشاه أنّ هذه التعابير تستخدم أحياناً تماشياً مع «الموضة» السائدة، أو لأن «مشهوراً» معيّناً أطلقها، بل ربّما ينساق بعض المترجمين فعلاً باتباع الأسلوب الجماليّ للترجمة على حساب الأمانّة العلميّة. ورأيي أنْ لا ننساق مع هذا التيّار، وأنْ لا ينوب المترجم عن الكاتب في تحسين عمله، فتلك وظيفة المحرّرين والمدقّقين في اللغة الأصل. وقد أكون شخصيّاً استعملت هذا التعبير لغواً قبل أكثر من عشرين سنة، لكنّني حتماً لم أطبق هذه العمليّة على ترجماتي. كما أنّني أشدّد على أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الترجمة الأمينة والترجمة الحرفيّة التي أرفضها تماماً، والتي لا تصلح حتّى في المجال العلميّ (ترجماتي العلميّة تتضمن ثلاثة عشر كتاباً تقانيّاً، وكلّها أهون من ترجمة قصيدة واحدة).
شكراً لأحمد رامي الذي أبدع وملأنا بهجة، لكنّي لا أعتقد أنّه ادّعى يوماً أنّ ترجمته أكثر الترجمات دقّة. أما معرفتي الشخصيّة بأحمد الصافي النجفيّ الذي كان بعمر جدّي، وكنت أجتمع معه في مقهى «ها?انا» في دمشق ليملي عليّ من شعره «التقدميّ» فيما لم يكن يرغب بإلقائه في منزلنا، فما كان إلاّ أن يكون أميناً حتّى العظم. هذه الصفّة التي ترفعه إلى منزلة عالية في الترجمة هي التي تمنعه من أنْ يكون على درجة رامي وأمّ كلثوم شعبيّة.