جميل الشبيبي – ناقد من العراق
تمتثل رواية (جدار الصمت) للروائية دينا سليم إلى السيرة الذاتية، تستحضر لحظة وجود شخص يمتلئ بقامة تعاند الاختفاء عن عالمنا الأرضي، ولحظة وداع لا تريد لها الاستمرار، وبين هاتين اللحظتين، تعمد الروائية على استنفار الذاكرة مرة والتقنيات الروائية مرة أخرى لكي تبني صرحا ناطقا لذات تلاشت ثم غابت في اللانهائي لتعود إلى دائرة الوجود المفتوحة ( لتقرع ناقوسها في فراغ الوجود من جديد، مثلما عادت إلى رؤوسنا التساؤلات الكثيرة لتطرح نفسها، أهمها، لماذا رحلت الآن بالذات، ولماذا لم تنتظر قليلا)!
. كيف يتسنى لروائية ? هي في الآن أم – أن تسرد حياة ولدها البكر بعد أن غادر الحياة، وهو في اكتمال شبابه وحيوية حضوره الطاغي في ذاكرتها، كطيف نقّي من الأدران الأرضية التي كانت تحيط به؟ كيف لها أن تتجرد من حزنها المقيم وتجعل ابنها ( باسم) شخصية روائية تحتمل التألق والذبول، وتطالها الرذيلة أو تكتنفها فضيلة من نوع خاص، أتامل قدرة كاتبة واعية لحزنها المقيم أن تحيل سرد حياتها الخاصة إلى سرد روائي يحتمل الخيال الروائي في كِذبهِ وصدقِهِ، في ما يطاله من خيال وما يكتنفه من غموض وتداعيات ورغبات غير بريئة!
بداية، مهدت الروائية دينا سليم للحدث الطارئ ? الموت- الذي سيطرق باب بيتها وهي مرهفة الإحساس تتحرى كل حركة أو صوت غريب أو أي تغيير مهما كان صغيرا، وهو يتضخم في قرارة النفس كهاجس بقدوم كارثة، وخلال ذلك ينمو إحساسها frown emoticon، كتبت (أحسست بروحك تحوم في البيت، روحك حلت دون أن تطرق الباب ولم تقف على عتبة الدار، وكما في كل مرة نظرت خلفي لكي أحظى برؤيتك… ) كان ذلك قبل يوم من عيد ميلادها، ثم يأتي سقوط الساعة الجدارية التي أهداها لها في عيد ميلادها وتهشمها علامة دالة على الموت الذي يتربص بابنها المريض . ولا تكتفي الروائية بأحاسيس الأم عشية الرحيل الأبدي لابنها بل تعمد إلى افتراض انتشار هاجسها في أجواء المدينة ليصل إلى (بيضاء) و(دجانة) المسؤولتين عن تغسيل وتكفين جثث الموتى وإقامة العزاء والندب.
هناك استثمار واع للتفاصيل السّيرِيّة، فالكاتِبَة تغادر حزنها المقيم، وهواجسها تجاه عالم روايتها التي تريد منها هد جدار الصمت، وبناء حياة مفعمة بالأمل، حياة تستعيد فيها حياة ابنها (باسم) وتتوج حضوره بتلك الحوارات الكثيرة معه، وبالوصف الدقيق لمراحل مرضه، وتحولات شخصيته حين تلقي ضوءا كاشفا على معاناته، وتمرده على أطبائه، وتمرده على والدتهِ أيضا وهو يمر بأدوار المرض بالتزامن مع معاناة الأم وهي تضّحي بكل شيء من أجله ومن أجل عائلتها الكبيرة، حين تهجر وطنها (فلسطين) تجاه وطن جديد سترى فيه رعاية واحتضان من نوع فريد، وهي إذ تسهب في سرد معاناتها من خلال تضحياتها، فهي تسجل صورة مفعمة بالإيثار والحب والشفقة النادرة .
لقد استطاعت الروائية دينا سليم أن تستثمر تاريخ حياتها وسيرتها الذاتية لتكتب رواية مُشبّعة بالأحاسيس والأفكار، والحوارات المثمرة، وبناء الشخصيات القوية المُؤثِرة كشخصية الأم وشخصية (باسم ) وشخصية الأب الأناني، الذي يمتثل لرغباته ومتعته فقط، إضافة إلى الشخصيات الثانوية التي أعطت الرواية إنعِطافَةً نحو الشفافية والإنسانية العذبة، شخصية الراهبة ( دي لورد) التي (كانت أول من نشلني من حيرتي، وأوفى من ساهم بترميم قلبي المجروح، ساندتني عندما أمضيت وحيدة لا ألوي على شيء سوى التفكير بعدم العودة)، وشخصية (هيلينا) عازفة البيانو التي تعزف للمرضى وهم يعيشون لحظاتهم الأخيرة!
والروائية في سعيها إلى كتابة رواية، بتكثيف سيرة حياتها الممتدة على زمن طويل، فقد نوعت وجهات النظر في روايتها هذه، بتشكيلة من الضمائر التي تناسب سرد أحداثها، كضمير الغائب، وضمير المخاطب وضمير الأنا، بالتناغم مع فصول الرواية ومنعطفات أحداثها وحواراتها، يضاف إلى ذلك دخول صوت باسم إلى السرد من خلال مذكراته، التي يتحدث فيها عن حوادث أخرى من وجهة نظره ويسجل فيها آلام أمه وحزنها عليه ومكابداتها مع والده القاسي .
ورواية (جدار الصمت) تتخطى أسوار آلامها وإحزانها العالية، لتؤسس عالما من الرحمة والإنسانية والتسامح على أنقاض وقائع القهر والعَسف والحرمان، وتعيد سيرة حياة شخوصها بما يحقق لهم حياة ورقية خارج جبروت الموت والفناء .