بقلم بيار سمعان
لا تخلو وسائل الاعلام من اخبار القتل والاعتداء على النساء والاطفال، وتصل احيانا الى تهديد حياة افراد العائلة بأسرها، وليس فقط المرأة لوحدها.
وبينما كان عدد ضحايا العنف المنزلي مئة امرأة تقتل سنوياً حسب احصاءات سنة 2006، تبين من الارقام التي نشرت سنة 2015 ان امرأتان تقتلان اسبوعياً في استراليا على يد الزوج او الشريك او الحبيب.
وفي معلومات مستقاة من مراكز خدمة العنف العائلي على الهاتف DV Connect في كوينزلاند، تبين ان المركز تلقى 55 الف اتصال هاتفي سنوياً من نساء اشتكوا من تعرضهنّ لنوع من الاعتداء الجسدي او الجنسي. كما تشير احصاءات هذه المراكز ان اربعة آلاف مخابرة اعلنت فيها النساء انهن بحالة الخطر، والخوف الشديد على سلامتهن وسلامة الاطفال. وتنقل المؤسسة شهرياً 350 إمرأة وحوالي 400 طفل خارج المنزل والى اماكن اقامة مؤقتة، خوفاً على سلامتهم.
وفي تفاصيل ادق، تبين ان 9٪ من المتصلين هم من اقاصي شمال كوينزلاند، 83٪ هم من خلفية انكلوساكسونية وهذه نسبة مرتفعة، 10٪ من السكان الاصليين، 7٪ يتحدثون لغات غير الانكليزية، 40٪ منهن احتاجوا الى مترجم لانهن يجهلن الانكليزية.
هذه الارقام هي خاصة بكوينزلاند فقط لكنها تعطي صورة واضحة عن حجم تفشي ظاهرة العنف العائلي والاعتداءات الجنسية والجسدية وتهديد حياة بعض النساء. فما هي الخلفيات التي اوصلت المجتمع الاسترالي لان يكون عنيفاً حيال النساء، وماذا يدفع الى العنف داخل العائلات المهاجرة؟
– ظاهرة العنف والبعد الاجتماعي.
المجتمع الاسترالي هو مجتمع تعددي يضم جاليات من 200 بلد وثقافة وتاريخ مختلف، بالاضافة الى تعدد التقاليد والعادات. وقد كانت نشأته اساساً ذكورية ضمت في مراحلها الاولى المساجين والمحكوم عليهم في الامبراطورية البريطانية. ثم لحقت النساء بغية انشاء عائلات وزيادة عدد سكان البيض في المستعمرة الجديدة.
وكان يسمح للمساجين ان يختاروا زوجات مما توفر من النساء المحكومات ثم المهاجرات لاحقاً. وباعتقادي ان نشأت العائلات منذ بدايتها كانت مبنية على الحاجة وليس على اسس اخرى كالحب والتفاهم والرغبة المشتركة بالعيش معاً وتأسيس عائلة متماسكة. ومع غياب هذه العوامل تمكن الرجل ان يتخذ مكانة اعلى وارفع من المرأة التي اقتصر دورها على الانجاب والاعمال المنزلية والمؤازرة في اعمال الزراعة وتربية المواشي والخضوع للرجل…
لذا اوجب لمعالجة اي خلل اجتماعي ضمن العائلة تدخل السلطات الامنية وبدأت السلطات المركزية تكيف القوانين حسب حاجات المجتمع ورغبة القلة الحاكمة باسم العرش البريطاني.
ومع قدوم المهاجرين، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية دخل استراليا آلاف العائلات من الدول الاوروبية التي تتميز بعراقة التقاليد لديها وتماسك العائلة نظراً لاهميتها. كما هاجر الى استراليا «استراليون جدد» من بلدان اخرى في الشرق الاوسط وآسيا وافريقيا واميركا الجنوبية.
ومع التخلي عن سياسة «استراليا البيضاء» فتحت ابواب الهجرة لعائلات من 200 بلد تختلف في التقاليد والثقافة واللغة والقيم الاخلاقية والدين، خاصة بعد ان اقرت الحكومة الاسترالية، في السبعينات من القرن الماضي اعتماد سياسة «التعددية الثقافية». ورافق تلك الحقبة ايضاً ظهور حركات تحرر المرأة في اوروبا واميركا تطالب بالمساواة في الحقوق والعمل وساعد اكتشاف حبوب منع الحمل منح المرأة القدرة على التحكم بقرار الانجاب والمزيد من الحرية الجنسية والتفرغ للعمل لغياب الحبل… كما دعمت جماعات التحرر والموجات الفكرية ذات الطابع المادي المطالبة بالحرية الجنسية، وحرية الاختيار والتصرف واختيار الشريك والحبيب ومنح النساء المزيد من الاستقلال.
ظاهرة التعددية الثقافية وما رافقها من تغييرات في المفاهيم اوجبت اعادة النظر في القوانين. وهذا ما منح الدولة ومؤسساتها المزيد من الصلاحيات على حساب وحدة ومصلحة العائلة. وبدأت القوانين تتعامل مع المواطنين كأفراد وليس كعائلات. ومنحت المرأة المزيد من الحرية والحقوق، كما منح الاطفال المزيد من الحماية وتوفير المساعدات المالية وتأمين المسكن لمن بلغوا السن القانونية، في حال قرروا العيش خارج العائلة.
باختصار، كل هذه العوامل ساهمت في اضعاف سلطة الوالدين مع ابنائهم ومنحت المزيد من الحماية للمرأة على حساب وحدة العائلة وسلطة الرجل.
– الدولة حلت مكان الوالدين.
حيال هذه التشريعات والتدابير والمساعدات المالية شهدت العائلة في استراليا ازمة طالت تماسكها وتكاملها. وتحول افراد العائلات الى افراد ينتمون اكثر الى المجتمع ككل. وشهدت التشريعات القانونية سلسلة جديدة من الموانع لدرجة ان الدولة ومؤسساتها دخلت بطريقة غير مباشرة الى المنازل وغرف النوم ووقفت بين الوالدين والاطفال وبين الرجل والمرأة. وكما يوجد اسوار حول المنازل وبين الجيران، اصبحت بفعل التشريعات هذه الاسوار مرتفعة داخل العائلة.
وساهم هذا الواقع الجديد بمطالبة المرأة بحقوقها وحريته وتحررها من القيود والشروط والتمنيات التي يطلبها الزوج، كما شعر الابناء ان الدول تحميهم وتوفر لهم المساعدات، ولا مانع من الاستغناء عن الوالدين، او التخلي عن الوالد كمصدر عيش ورمز للسلطة والتوجيه.
وان كان هذا المناخ الاجتماعي القانوني قد اثر سلباً على العائلات الاسترالية الانكلوساكسونية (83٪ من طالبات المساعدة بسبب العنف المنزلي هن من خلفية انكلوساكسونية). فما بال تأثيره على العائلات القادمة من بلدان محافظة وتقليدية!!
بعض الناس (السيدات خاصة) استفدنا من هذا المناخ السائد لتحصيل حقوق لم يكن بمقدورهن الحصول عليها في بلدانهن. فكانت ردود الفعل لدى الجاليات المحافظة اما السعي الى التشبه بنمط الحياة السائدة، او رفض مفاعيل هذه القوانين، عن طريق الانضواء الاجتماعي والعزلة والانقطاع عن المجتمع.
فادى ذلك الى ظهور تجمعات سكانية متجانسة تعيش في منطقة واحدة وتشعر بالاطمئنان لقربها من عائلات مماثلة في التقاليد واللغة والايمان. وهذا ما خلق نوعاً من الفيتو اللبناني او الفيتنامي او الصيني، او ادى الى خلق تجمعات ذات طابع ديني او مذهبي معين داخل المجتمع العام، وحول الكنائس والمساجد.
غير ان ردود الفعل هذه تبدل في الشخصية الاثنية، لكنها لا تعدل القوانين التي تسير بموجبها البلاد. فالصراعات بين الرجل والمرأة او بين الاهل والابناء نمت، وارتفعت نسبة الطلاق والتفكك الاسري. ومالت في هذه الحالات دفة القوانين لصالح المرأة بحجة تخفيف اعباء الطلاق عن الدولة والضمان الاجتماعي، فمنحت المرأة حصة الملك عند وقوع الطلاق. (حق رعاية الاطفال، المنزل، مساعدة مالية من الوالد، وغيره..).
وبدا ان الطلاق او الانفصال او قرار ابعاد الرجل عن اجواء عائلته ومنزله وفي حالات عديدة دفعت الرجل الى معالجة مشاكله بيده. فمنهم من تحايل على القانون والبعض الآخر قرر الانتقام من الزوجة واحيانا من الزوجة والاطفال معاً.. وهذا ما يطلق عليه العنف العائلي. ومع خروج الزوج من المنزل دخل العشيق والصديق والشريك والحبيب فزاد منسوب العنف والاعتداء الجنسي على الاطفال.
ونقرأ يومياً اخبار اعتداء رجل على زوجته ومحاولة قتلها، او رجل يمني يقتل زوجته لانها رفضت العودة معه الى اليمن، او في حالات اخرى رجل يقتل عائلته وزوجته ثم ينتحر، او رجل آخر يطعن زوجته حتى الموت.. او حالات التسمم العائلي، او غرق عائلة في بحيرة وما الى ذلك من احداث حسب ظروف وشخصية الرجل… يبقى السؤال الاهم التالي: من اين يبدأ الاصلاح؟
ربما يكون الجواب الاسهل هو بالعودة الى انماء الروح العائلية القائمة على المحبة والاحترام المتبادل وقرار العيش معاً وبناء عائلة تقليدية مبنية على قرارات تتخذ بمشاركة الوالدين والاطفال.
وباعتقادي ان هذا يتصادم مع المطالب التي تشغل الاحزاب السياسية والناشطين من المثليين الذين يطالبون الآن بإعادة صياغة مفهوم العائلة على اسس جديدة سوف تضرب ما تبقى من اسس صالحة للعائلة الطبيعية.
قد تتخذ الحكومات تدابير جديدة وتسن قوانين صارمة، لكن هذا لن يعالج مشكلة العنف العائلي، طالما ان العائلة قد ضربت في الصميم والتشريعات الجديدة ستزيد من انتقاص الحريات العامة وتضيق الخناق على المواطنين.
انا اشجب ظاهرة العنف العائلي كما ادين العنف بكل اشكاله.. للاسف الشديد، اصبحنا نعيش اليوم في عالم يتعمد تدمير العائلة ويعمم ظاهرة العنف من خلال نشر الحروب والحوادث الدامية، فمن اين يبدأ الاصلاح؟
سؤال للتاريخ… لعل احدهم يعيد كتابته وقراءته مجدداً.
pierre@eltelegraph.com