طلال مرتضى

هي حشرية المثقف وليس سواها, وقد أجاد سارتر بتسميته: المثقف هو الشخص الذي يهتم بأمور لا تعنيه إطلاقاً.

كما الكتابة الذكية حين وصفها, خيري عبد العزيز قائلاً: الكتابة الذكية لا تطعم القارئ الفكرة كاملة, ولكنها تستدرجه لمعركة ذهنية مع الكاتب.

من هنا أولجنا المغاربي عبد الرحمن بهير, دهاليز طقوسه العبثية المراس, عبر سرديته, ليقلنا إلى عوالم وفلوات, تنثال طيها حيوات بغاية التعقيد, ذات أبعاد متفاوتة الزمكان.

«طقوس العبث» رواية الفقدان, الصادرة عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والتوزيع والنشر /2015/بيروت, بتوقيع الكاتب المغربي عبد الرحمن بهير.

هامش: قد تخاتلك المروية بأنها تنحاز إلى أدب المذكرات أو اليوميات التي خرجت من عباءة السيرة, لكننا بالمطلق أمام نمط آخر من سرديات لا تذهب إلى السيرة الشخصية أو الميثاق «الاوتوبيوغرافي» بل إلى السيرة المعرفية والذهنية, وهي رواية الأفكار, ويتسم حدثها بكثرة علائقه ونزوعاته الأسطورية والوجودية والورائية أي «الميتافيزقية» كموضات الحب المستحيل أو الموت.

«علموني أن الله خلق ملاكين واحد على يميني والثاني على يساري, كلفهما الله خصيصا لمراقبتي وتدوين حركاتي وسكناتي وكلامي وما يجول في خاطري, وهكذا قيدوني: أليس من حقي استعمال عقلي ولو لمرة واحدة في العمر وحتى للحظة شك أو على الأقل طرح سؤال بسيط وهو: ما الغاية من وجودي»؟.

من هنا بدأت الرواية بناء اسطورتها الخاصة بواسطة موضوعاتها أو تيماتها المعروفة, وهو ما جعلها تذهب بعيداً أكثر إلى امتحان المتخيل السردي ووضعه في اسئلة مفارقة تبنى نظرياً على السؤال التالي: ماذا لو أن؟.

«لقنوني من يوم مولدي أشياء كثيرة، ومن أغربها أن فض البكارة فريضة. هكذا حملت سيفي البتار مثقلاً بثقافة بالية للقيام بما اعتبرته  «واجباً دينياً».

تحدي: «سوف لن تغمض عينيك, حتى تقرأ النهاية.

بهذه الكلمات قدم «بهير» سرديته, ضحكت هاجساً: بأن صديقي يرش القنبس عمداً كي يوقعني في فخ القراءة, لكنني حين تتبعت مسير بطلها أحمد الغارق في ريفيته الفطرية ليبدأ مشواره في مدن الصفيح كشيخ للكتاب, ليتحول بعدها إلى رجل مشعوذ, راضخاً لإملاءات المجتمع الذي يرزح تحت وطأة الخرافة, ووقوعه في حب خديجة الجميلة التي أخرجته من جبته, لتختفي فجأة ويفقد الامل في لقاءها, ثم يستجيب لنداء أمه ليتزوج من ابنة خاله الغنية ذات المرض العضال, إلى أن تطرق خديجة باب صومعته من جديد, الأمر الذي عجل موت زوجته, وذات توبة وهو في زيارة صديق يلتقي بفتاة ليس لها شبه الا حبه الأول خديجة, ويتزوجها وينجب منها طفل أحلامه, ليتكشف بأن خديجة هي أخت زوجته, تأتي وزوجها لمباركة أختها بالولادة, تختلي بحبيبها ويشربان نخب إعادة أحياء حبهم, ثم ترسل لأختها واشِ يخبرها بخيانة زوجها, لتأت الأخيرة وتجده في حضن أختها, تفر من إلى مكان غير معلوم مع ولدها, يستفيق من كابوسه خاوي الوفاض, زوجة هاربة وحبيبته غادرت, يغرق في بحر الخمرة انتقاماً, يستسلم لعلاقة مساكنة, ويفتتح مكتبة لبيع الكتب لأنه يشغف كثيراً بالقراءة, ليقف ذات يوم أمام سيدة أتت تدفع ثمن كتاب اشترته, فكانت لعنته خديجة, تجره إلى خلوتها, وحين ترتوي من ماء العشق وتغيب كعادتها, هنا يعلن أحمد توبته النهائية: أدركت أنني ركبت قارباً بدون مجذاف، وأنني سأغرق في مياه عميقة في محيط المرأة السحري, وأنني مجرد كذاب.

لكنه ظل يُمني نفسه بالخسارات السالفات بأقوال الكبار التي لا تعيد أي من خساراته, يقول ألبير كامو: الحب هو أن تعطي كل شيء، وتضحي بكل شيء بلا مقابل.

وتتوالى الأحداث إلى أن تعود خديجة مرة أخرى لتحتفل بعيد الحب الأربعين, لكن السكري لحس جمالها, بينما كان السرطان يوغل في رئة أحمد, الحب لا يعرف عمر ولا مرض, الحب عنقاء يقوم من رماده حين نداء, في الخلوة اعترفت بكل المصائب تسببتها لأحمد, لتنتهي المروية بمحاولة هروبه عن وجهها, يدفعها بقوة لتسقط صريعة دون حراك, هنا يفترقان هي إلى القبر وهو إلى السجن بتهمة التسبب في الموت.

«المرأة إذا أعطتك كل ما لديها عرتك من كل ما لديك.»

«طقوس العبث»  ليست مجرد موضوعات خطها «بهير» على الورق, بل هي مجموعة علائق تقنية وفنية امتازت بكفاءة متخيلها وتحرير أفكارها بدفعها إلى مغامرة السرد.

بوح: حين كممت اخر أسئلة النص, عبرني منولج استفزازي, لكزني وأنا أغلق الرواية: إن كان الذي يربط أحمد وخديجة يندرج تحت مسمى الخيانة, أنا ذاهب لأشرب نخب خيانتكم اللذيذة.