فاطمة مارديني – نيوكاستل

كان قد مضى على مجيئي الى استراليا عدة أشهر , وكعادتي كنت أجلس أدرس في غرفتي , وكان عمي  قد أصابته جلطة دماغية , أدت الى شلل نصفه الايمن , وتعثر النطق لديه , ولكن بعد العلاج الطبيعي ,تحسنت حالته ولكنه كان يجد صعوبة كبيرة في القيام بالاعمال اليومية  المعتادة التي كان يقوم بها  من قبل , كالاهتمام بالحديقة , اوالخروج  الى السوق, كما أصبح فهم ما يقوله صعبا من قبل الغرباء , باستثناء  أفراد عائلته الذين كانوا  يفهمونه عن ظهر قلب .
ويومها كان الطقس ربيعيا جميلا , جلس عمي  أبو سعيد قرب النافذة ينظر  الى الخارج , حيث يطل منزله على شارع فرعي مقابل ملعب الغولف,  بينما كانت زوجته في المطبخ  تعد طبق المجدرة الذي يحبه كثيرا , واذ بسيدة ورجل  يطرقان الباب , فمشى على مهل وفتح الباب فرحا , فهو كان ينتظر أي زائر بفارغ الصبر , حيث اصبح حبيس البيت معظم الوقت بسبب حالته الصحية , وقبل أن يرحب بالضيفين اللذين  كانا يحملان أوراقا وكتيبات  ,  استبقاه بالقول: « ما هذه الرائحة الجميلة ؟ « فضحك وقال « تفضلا وشاركانا  طعام الغداء معنا , فزوجتي تطبخ المجدرة , طبق لبناني شعبي « , فلم يصدقا دعوته الى الدخول , خصوصا ان علامات الارهاق  بدت عليهما ,ولم يتعودا أن يدعوهما الغرباء الى الغداء , وهي عادة عربية باميتاز,  ودخلا بعد أن قالا , نحن « شهود يهوا « , هنا استوقفهما عمي  وقال « لحظة لا أفهم ما تقولان , سأنادي إبنة اخي  لتترجم لي ما تقولان.
وبعد أن جلس الضيفان الى طاولة الطعام , وكانت زوجة عمي سكبت طبقين من المجدرة وزينتهما بالبصل المقلي ,وقدمت الى جانبهما سلطة الزعتر والكبيس , اخذ الضيفان يأكلان بنهم , وبدا  عمي أبو سعيد يسألهم عن مبتغاهم , فقالا « نحن نجول على البيوت نعرف الناس على يهوا , وهو الاله الحقيقي للبشر(يهوا يعني بالعبري الاله ) , هنا انتفض عمي , وقال « انا مسلم واعرف الله , اله البشر جميعا , ونحن المسلمون نؤمن بكل الانبياء الذي جاؤوا قبل الرسول محمد صلى ,وسيدنا عيسى عليه السلام منهم وكذلك أمه مريم مذكورة بالقرآن الكريم بسورة كاملة ,  لكنكم أنتم المسيحيون تجعلون من الله , ثلاثة أب وابن والروح القدس « !
وأسهب عمي في الكلام عن الاسلام ,وطلب من  زوجته احضار القرآن الكريم وكتب التفسير» الترمذي , والبخاري وغيرهما « التي تعمر بها مكتبته , مستغلا انهماك الضيفين في الاكل , فهو بسبب الجلطة وصعوبة الكلام كان يشبر بيديه يمينا وشمالا , فبدا للضيفين الاستراليين كأنه غاضب منهما او قد استفزاه بالحديث عن « يهوا «  , خصوصا أن مفعول المجدرة اللذيذ بدأ يسري في معدتهما  ويؤثر على دماغهما ويعيقهما  عن القيام بالمهمة التبشيرية  التي جاءا من أجلها  , فلم يعد ينطقا بحرف عن تعاليم « يهوا» وما هي الاختلافات مع الكنائس المسيحية الاخرى « والتي أحببت أن أعرفها منهما»  , فخجلا أن يناقشا بموضوعية صاحب البيت المضياف , وتحولت الجلسة عن هدفها , من أن يحاول الضيفان اقناع عمي باعتنقاء المسيحية وأن يتبع شهود يهوا , الى جلسة للكلام عن الاسلام  وانه الدين الحقيقي والله هو اله كل البشر , والرابحون هم الذين سيتبعون الاسلام «.
ام الطامة الكبرى , فكانت عندما سأل الضيف عمي عن رأيه بالعمليات «الانتحارية»في فلسطين , فرد عمي « ان فلسطين محتلة ويجب على أهلها الدفاع عن أرضهم « وسأله عمي « هل أنت يهودي ؟ « فرد لا كنت كاثوليكيا  ولكن الان أنا من شهود يهوا  ,فرد عمي « هكذا بهذه البساطة تتبع كنيسة أخرى  « قال « ايه ولكن امي واخوتي لا يزالون كاثوليك  ولا مشكلة في ذلك ابدا هنا في استراليا , فاتباع دين معين هو من الحرية الفردية التي  لا يفرضها الاهل او الدولة «  فهز عمي رأسه وعلامات الامتعاض بادية على وجهه  وقال كذلك في الاسلام « لا اكراه في الدين «  , وهنا بدأت المحاضرة الثانية عن القضية الفلسطينية , وفي هذه الاثناء كان ضيفانا العزيزين قد انهيا طبقين  اخرين من المجدرة , ولم يعد لديهما الطاقة على الكلام.
وفي نهاية الجلسة كان الفائز الوحيد طبق المجدرة , فلا عمي أقنع المبشرين بالعدول عن التبشير بيهوا ولا هما اقنعاه باتباع ديانتهم , ومن يومها لم يملاّ من زيارته , والاطمئنان على صحته , وكانت الجلسة بالنسبة لي مثيرة للاهتمام , أنا الآتية من بلد أكلته الحرب الاهلية بسبب الصراع بين الطوائف والمذاهب على المال والسلطة  ,حيث يمكن أن نناقش « تابو» الدين بكل حرية , وبعيدا عن العنف , وممكن أن تفرقنا الاديان , ولكن بالنهاية الانسانية تجمعنا .