وصلت سيارة الأجرة (بيضاء اللون) التي كانت تقلّ خالد العباسي من بلدة جدرا في ساحل إقليم الخروب الى مطار رفيق الحريري الدولي قرابة العاشرة والربع من صباح السبت.
ثم ناول خالد السائق المبلغ المطلوب، وتقدم الى البوابة الرئيسية، ثم الى أول حاجز لأمن المطار عند «السكانر» من جهة اليسار. قدّم أوراقه الى العسكري ووضع محفظته أمام جهاز الكشف، وتولى أحد العسكريين تفتيشه يدويا، وبعد ذلك اتجه صوب «الكونتوار» التابع للخطوط الجوية المصرية. انتظر دوره، وأعاد تقديم جواز سفره وحجزه الإلكتروني، وناول الموظفة حقيبة واحدة، فيما حمل في حقيبة يد بعض الأغراض، بالاضافة الى هاتفه الخلوي. تقدم ذهاباً وإياباً، وعندما قاربت الساعة العاشرة والنصف، وقف بالصف المؤدي الى أول حاجز للأمن العام قبل ختم جوازات السفر. ما ان قدّم جواز سفره للعسكري، حتى سأله الأخير: اسمك خالد العباسي، أجابه نعم، فاستأذنه الدخول معه الى مكتب التحقيق المحاذي.
تبلّغ الضابط المعني أن خالد العباسي صار موجودا في المكتب. التقطت له أكثر من صورة، وتم ارسالها بواسطة «الواتساب» الى الضابط المعني في مكتب المعلومات في المديرية العامة للأمن العام. تكامل جهد مختبر الأمن العام في المطار مع مكتب المعلومات، في الجزم بأن جواز سفر خالد العباسي مزور (بشكل فاضح وخصوصا توقيع الضابط المفوّض من المدير العام للأمن العام). عندها صار أمر توقيفه محسوماً، ليبدأ البعد الأمني في المديرية العامة للأمن العام في المتحف.
هناك، ما ان تسلم الضابط الكبير الموقوف خالد العباسي، حتى كان يخاطب المدير العام للأمن العام الموجود في مسقط رأسه بلدة كوثرية السياد: مبروك سيدي. أحمد الأسير صار في ضيافتنا في المديرية.
قبل هذه اللحظة، كانت قد اتخذت اجراءات في مطار بيروت وأروقته شاركت فيها قوة مؤلفة من 40 عسكرياً من الأمن العام، بعضهم كان بلباسه العسكري، والبعض الآخر بملابس مدنية. انتشروا في زوايا محددة لهم. قيل لهم قبل ذلك أن ثمة موقوفاً خطيراً اسمه خالد العباسي وهو متهم في جرائم إرهابية، ولا بد من اجراءات وقائية، مخافة أن يقدم أحد الإرهابيين على تفجير نفسه بحزام ناسف في الخارج أو يحاول اقتحام المطار. المفارقة اللافتة للانتباه أن هذه القوة لم تتحرك من أماكنها، ولم تصدر عنها أية حركة تلفت انتباه المسافرين في المطار، ولم تعلم بأمر القاء القبض على المطلوب الا عندما طُلب منها العودة الى مقر المديرية العامة في المتحف.
منذ ستة أشهر، تلقى الأمن العام إشارة حول نيّة أحمد الأسير مغادرة لبنان بأوراق مزوّرة الى الخارج، وقبل ثلاثة اشهر، تمّ التأكد أنه مصمم على المغادرة وهو اختار التوجه الى نيجيريا بسبب إمكان حصوله على تأشيرة من السفارة النيجيرية في بيروت (محلة بئر حسن) عبر إحدى شركات السفر، ومن دون الحاجة الى الحضور شخصياً.
تمّ تشكيل أكثر من مجموعة في الأمن العام. مجموعات كانت تراقب حركة اتصالات مشتبه بصلتها بأحمد الأسير. مجموعة كانت تتواصل مع مجموعة مخبرين في مناطق صيدا وإقليم الخروب والشمال. مجموعة كانت تقوم بوضع كل الصور التي يمكن أن ينتحلها أحمد الأسير عبر برنامج «فوتوشوب» متطور (رسمت عشرات الشخصيات الافتراضية تبيّن لاحقا أن أحدها تطابق مع صورته لحظة القاء القبض عليه بنسبة تصل الى 90 في المئة). مجموعة كانت تدقق في الأمن العام في رحلات الطيران والمسافرين، خصوصا الى نيجيريا وعواصم أخرى.
وفيما كان الجهد متمحورا حول كمين مطار بيروت، كادت الصدفة تجعل الأسير يقع في قبضة الأمن العام اللبناني في مطلع هذا الشهر، وذلك أثناء وجوده في منطقة شرحبيل لولا مصادفة تحرك دوريات عسكرية لبنانية في المنطقة جعلت الأسير يغير مكانه سريعا باتجاه عين الحلوة.
وقد حمل أحمد الأسير مجموعة من الأوراق الشخصية، بينها جواز سفره الفلسطيني المزوّر باسم خالد علي العباسي ووالدته فاطمة وهو من مواليد صيدا 1972،(رقم الوثيقة 251408)، وهو صالح لمدة ثلاث سنوات (أعطي بتاريخ 31 تموز 2015 وصالح لغاية 30 تموز 2018).
كما حمل بطاقة هوية مزوّرة خاصة باللاجئين الفلسطينيين، وفيها أنه من مواليد صيدا (1972) ومن سكان حي البراد. كما حمل جواز سفره تاشيرة سياحية الى نيجيريا بدءا من تاريخ 10 آب 2015 ولمدة شهرين من تاريخه.
قبل وصوله الى المطار، كان أحمد الأسير قد أمضى 48 ساعة في منزل أحد مؤيديه ويدعى عبد الرحمن الشامي في بلدة جدرا وقد تمت مداهمة الشقة وتبين أن صاحبها قد توارى سريعا عن الأنظار ما ان سمع بنبأ توقيف الأسير، فتم احتجاز ولده الذي أكد خلال التحقيق أن الأسير انطلق من منزلهم الى مطار بيروت.
كما تمت مداهمة مركز عمل الشامي وشقة يملكها في بيروت، وتمت مصادرة أوراق وأجهزة كومبيوتر.
ووفق نجل عبد الرحمن الشامي، فإن الأسير كان يقضي معظم وقته متنقلا بين مخيم عين الحلوة (مع فضل شاكر) وصيدا القديمة.
وعلى قاعدة التدقيق الاضافي (اعترف خالد العباسي قبل وصوله الى المديرية العامة للأمن العام في المتحف بأنه أحمد الأسير)، تم استدعاء والدي الأسير، وتم أخذ عيّنة من الـ «دي ان ايه» منهما تمهيداً لاجراء فحوصات ومطابقتها مع الحمض النووي للأسير، وهي مهمة تحتاج الى 48 ساعة تقريبا.
وفور وصول الأسير الى مقر الأمن العام، شرع المحققون بالتحقيق معه، من دون أن يتعرض الى أي ضغط حيث قدم معلومات عن بعض الشقق وأماكن تخزين السلاح، وعلى الفور باشر الأمن العام حملة مداهمات خصوصا في صيدا وضواحيها الشرقية.
وفق الأسير، فانه كان متوجها برحلة للخطوط الجوية المصرية (مصر للطيران) الى مدينة أبوجا، تسبقها محطة قصيرة في مصر، لا يغادر خلالها مطار القاهرة الدولي، على أن يكون في استقباله على الأرض النيجيرية عدد من الأشخاص (من التابعية اللبنانية والفلسطينية) ممن تولوا كل ترتيبات اقامته وتخفّيه قبل انضمامه لاحقا الى بعض مجموعات «القاعدة» التي تقاتل في نيجيريا. وهذه النقطة استوجبت تواصلاً سريعاً بين الأمن العام وكل من السلطات المصرية والنيجيرية للتدقيق في هوية الأشخاص الذين كانوا سيستقبلون الأسير وإمكان تسليمهم للسلطات اللبنانية.
ابراهيم: عملية نظيفة جداً
ووفق المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم «كنا أمام عملية أمنية نموذجية ونظيفة جداً ومتقنة وبالغة الحِرَفية، ولم نتلق في كل مراحلها أي مساعدة من أي جهاز أمني خارجي ولا من أية جهات محلية وخصوصا فلسطينية»، وقال إنه لم يتسلم حتى الآن أجهزة بصمة العيون «لكن بصمة العين الوطنية أثبتت أنها بصمة لا تخطئ ولا تحيد عن هدف حماية الأمن والاستقرار، ولذلك قلت وأكرر أن حربنا ضد الارهاب مستمرة وهي عنوان هذه المرحلة».
وإذا كان المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود قد أكد أن الأسير سيحال إلى المحكمة العسكرية» بشأن قضية أحداث عبرا باعتبارها الجهة التي تضع يدها على الملفّ، فإن مصدراً قضائياً رسمياً قال إنّ الأسير لن يستجوب أمام قاضي التحقيق العسكري الأول إلا إذا ادعي عليه بتهم جديدة (كتزوير مستندات)، وإنما سينفّذ به رئيس المحكمة العسكرية العميد خليل إبراهيم وجاهياً، مذكرة التوقيف الصادرة بحقّه.
ولم يستبعد المصدر أن يساق إمام «مسجد بلال بن رباح» السابق إلى الجلسة المخصّصة لمرافعات عدد من موقوفي عبرا اليوم، إذا ما أرسل الأمن العام إشعاراً بتوقيفه إلى «العسكرية» قبل هذا الموعد، غير أن مصادر الأمن العام قالت إن هذا الأمر غير محسوم حتى الآن.