علي القاسمي
أدب الحرب: يُطلق مصطلح «أدب الحرب» على جميع الكتابات ذات الصلة بالنزاعات المسلحة، سواء أكانت شعراً أو قصة أو رواية أو مذكرات يومية أو رسائل أو غيرها من الأنواع الأدبية. ويشمل كذلك الحوارات مع ضحايا الحرب الأبرياء، كالنساء المغتصبات والأرامل وغيرهن. ويصوّر أدب الحرب فظاعة الاقتتال، وآثاره المدمرة على المحارب نفسه وأهله والبيئة والثقافة والمجتمع بشكل عام. فهو أدب إنساني النزعة، مناوئ للعدوان، مناصر للعدل والسلم والحياة.
ونظراً لموقع الوطن العربي الإستراتيجي في العالم وغزارة ثرواته الطبيعية، فقد تعرّض خلال القرن العشرين وما بعده لصنوف متعددة من العدوان من طرف الدول الاستعمارية، ما أدى إلى وقوع صراعات كثيرة مثل الثورات التحررية، والحروب المتكررة مع الكيان الصهيوني، وحرب اليمن، والحروب الأهلية، والحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج الثانية وغيرها. ولتعدد طبيعة هذه النزاعات ونتائجها، فقد كثرت نعوت الروايات التي كتبت عنها مثل: «رواية المقاومة» و»رواية الكفاح» و»رواية الهزيمة» و»رواية الانتصار»، و»رواية الانتفاضة» إلخ. ورغم جميع هذه الأنواع، فإن ما نُشر منها محدود في كمه، متواضع في نوعه. كما أنه لم يُثِر ما ينبغي من دراسات نقدية أو تحليلات أكاديمية؛ على حين يلقى أدب الحرب عناية خاصة في الغرب، حيث يُدرَّس في جامعاته مادة أساسية في مناهج أقسام اللغة والأدب.
كاتب الرواية : بخصوص الكاتب، رواية الحرب نوعان: رواية تُكتب من موقع المعايشة والتجربة والمعاينة، مثل رواية «معركتي: قتل الوقت في العراق» التي كتبها الجندي الأمريكي كولبي بُزل عن مشاركته في الحرب العدوانية الأمريكية على العراق سنتي 2003 و 2004، التي جُنَّ بعدها؛ ورواية تُكتَب بفضل التفاعل النفسي والوجداني مع ضحايا الحرب، من دون المشاركة الفعلية فيها. وهذا النوع يفتقد حرارة التجربة؛ وهناك استثناءات، فأفضل رواية حربية أمريكية كلاسيكية هي «نوط الشجاعة الأحمر» لستيفن كرين (1871 ـ 1900) التي كتبها عن الحرب الأهلية الأمريكية، من دون أن يشارك فيها أو في أي حرب أخرى، ولكنه كان يتمتع بموهبة أدبية وخيال جامح.
كاتب رواية «ما بعد الجحيم» هو حسين سرمك حسن، طبيب أديب ناقد مفكر، له حوالي 40 كتاباً نصفها تقريباً في الطب النفسي والعصبي، ونصفها الآخر في الأدب، ويدير موقع «الناقد العراقي».
شارك المؤلِّف في الحرب العراقية الإيرانية، وخاض تجربتها المريرة القاسية. وإذا كانت بعض الكتابات عن تلك الحرب دُبّجت في غرفٍ مكيفة بدافع الدعاية والترويج لإيديولوجية معينة، مثل «قصص تحت لهيب النار» و»حراس البوابة الشرقية»، فإن رواية «ما بعد الجحيم» إنسانية بحتة ومحايدة إيديولوجياً وكُتبت في الملاجئ والخنادق:
«…حيث تغفو بين أرجلنا وتحت بطانياتنا جرذان بحجم القطط وتتدلى الأفاعي على رؤوسنا من ثقوبٍ في سقوف الصفيح المغطاة بأكياس التراب، وحيث نبول عند باب الملجأ خوفاً من القنص أو تجنباً للمطر الشديد والبرد القارس، وننام بملابسنا العسكرية عادة ورائحة الجواريب العسكرية تسمِّم جو الملجأ وتدفع إلى الغثيان».
الحرب وأثرها على المحاربين: يقاتل الإنسان مكرهاً مضطراً، وتؤثِّر الحرب على الأفراد وتشكّل نقطة تحول في حياتهم؛ فمَن يخوض تجربة الحرب المريرة، لن يعود بعدها إنساناً سوياً. فالناجون من الحرب يتابعون حياتهم تحت وطأة تجربتها وآثارها النفسية. يقول الكاتب على لسان أحد شخوص الرواية:
«الحرب ليست نزهة أو سفرة سياحية نملؤها بالأهازيج والهتافات والتغني بحب الوطن… ولكن الحرب أصلاً موت وخراب ودمار وثكالى وأيتام. وضع في ذهنك أن هذا الخراب يطول المنتصر والمهزوم على السواء». ولم تؤثِّر تلك الحرب التي دامت حوالي ثماني سنوات على تصرفات الناس فحسب، بل حتى على سلوك الحيوانات، وهذا ما لا يعرفه إلا جندي مقاتل:
«جثث.. جثث.. جثث.. والكلاب التي اعتادت أن تنحدر من المدينة وتتجمع في الخطوط الخلفية قبل كل معركة، بدأت الآن تنسلُّ بخفة وحماس بين أجمات القصب».
وهذه الصورة المجازية الدالة وردت في أدب الحرب العربي في شعر النابغة الذبياني (ت 605) غير أننا نجد فيها الطيور الكواسر بدلاً من كلاب المدينة:
إذا ما غزوا في الجيشِ حلّقَ فوقهمْ عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ.
وبوصفه طبيباً نفسياً وأديباً، فإن الروائي يصوّر لنا الاضطرابات النفسية التي يُصاب بها الجنود، بصورة سردية مؤثرة، مستخدما التقنيات السينمائية في الرواية. ففي المشهد الأول منها نجد أن بطل الرواية واسمه (سلام) العائد من الجبهة في إجازة استراحة قصيرة، يندفع نحو زوجته لممارسة الجنس معها، ولكنه حالما يكون فوق جسدها يتراءى له جسد رفيقه الذي نحرته شظية في الخندق والدماء تنزف من بين الوريدين. وهكذا يفشل المقاتل الشجاع في الفراش، كما فشل قبله وكما سيفشل بعده آلاف المقاتلين، فالجثث المتفسخة والأجساد المتفحمة ورائحة الموت الكريهة تظل تجوس في حواسهم وأعماقهم.
في كل إجازة قصيرة يقضيها مع عائلته، تزداد معاملة (سلام) لزوجته الوديعة سوءاً، ويغضب لأتفه الأسباب، ويعاقِب بالضرب المبرح ولده أحمد الذي لم يعُد يفهم دروسه فتتردى علاماته في الاختبارات المدرسية. وهكذا يُنصَح سلام بمراجعة الطبيب النفسي الذي يهوّن عليه قائلاً:
«إن ما يعاني منه هو اضطراب نفسي معروف يحصل في كل الحروب ويُصطلح عليه بـ (عقبى الشداد الفاجعة)… ينتج من الأشلاء الممزقة والجثث المتفسخة. وأن أهم ما يميز هذا المرض هو أن صور وأفكار الفاجعة وذكراها تقتحم عقل المريض، رغم إرادته مراراً وتكراراً فتنغص عليه حياته ويضطرب نومه ويصاب بالأرق ويصبح عصبياً وعنيفاً… يحاول المريض تغييب ذاكرته من خلال تعاطي الحبوب المخدرة والمنومة وشرب الخمرة…». وهذا يفسر لنا لماذا تتجه الشرطة الأمريكية، عندما تقع جريمة ما في أي بلدة، أولا إلى التحقيق مع المحاربين القدامى في فيتنام وأفغانستان والعراق. وتصوِّر الرواية أنواعاً من الاضطرابات النفسية لدى المقاتلين:
«في الإجازة الأخيرة لاحظت أختي أن ابنها لا يسلّم على أحد وينزوي في غرفته. يضع شريطاً فارغاً وينهر إخوته، بل ويضربهم ويصيح: هدوء، هدوء، هدوء… أما الحادث الذي صدّع عقلها… فهو أن صديق ابنها واسمه (وليد) وهو جندي معه، يأتي ويطرق الباب ويقول لها: خالتي، رجاء، أريد الشريط الجديد الذي يستمع له (ستار) ، كي أسجله».
إن رواية «ما بعد الجحيم» من روائع أدب الحرب في العراق، وهي تؤكد الحكمة الإنسانية التي لخصها زهير بن أبي سلمى ( ت 626) في معلقته.