{ لا يمضي يوم الا ونسمع او نقرأ اخباراً دموية نتيجة لاطلاق النار المتعمد حتى اصبح القتل امراً شائعاً في الشرق والغرب على حد السواء. ورغم اجواء الحرب الضارية والاعمال القتالية اليومية، السائدة في الشرق الاوسط، لا تخلو الدول الغربية من المظاهر العنيفة والجرائم البشعة.
وفي حين ترتكب جرائم فردية ويستهدف اناس في الشارع او في منازلهم لاسباب انتقامية او لخلاف على صفقات محظورة، تتخذ بعض الجرائم طابعاً اجرامياً له ابعاد اخرى ذات بعد عقائدي او ديني، كالجريمة التي ارتكبها محمد عبد العزيز عندما اطلق الرصاص على عناصر في البحرية الاميركية وقتل خمسة جنود في قاعدة شاتانوغا، او جريمة مقتل 11 صحفياً فرنسياً في مجلة شارلي هيبدو في 7 كانون الثاني 2015.
وبينما نتحدث عن الجريمة ذات الدوافع الدينية وقعت مجازر منظمة لا علاقة لها بالدين او بالسياسة كالتي وقعت في دار للسينما في لويزيانا وسقط خلالها قتيلان و9 جرحى، قبل ان يوجه القاتل السلاح الى رأسه وينتحر.
وقرأنا مراراً اخبار قتل يقوم بها الوالد او الوالدة، ليس فقط عن طريق اطلاق الرصاص، بل احياناً بواسطة الرسم او العنف الجسدي او الطعن بسكين حاد.
فهل نستنتج ان اعمال القتل يقوم بها شباب مسلمون طائشون يلجأون الى العنف بسبب تطرفهم وكذلك يرتكب رجال بيض غربيون، كباراً ومراهقين جرائم بشعة لاسباب خاصة؟
اللافت مؤخراً انه عندما يرتكب مسلم جريمة يسرع الرأي العام الى الاستنتاج انه فرد من تنطيم عالمي كبير يجد اصوله في تنظيم داعش او القاعدة او بوكو حرام او الشبان… في حين يميل الاعلام الى الصاق صفة الجنون والخلل العقلي الى اي مجرم آخر يحمل سلاحاً ويطلقه على عامة الناس بشكل عشوائي. فانه مواطن عادي كسائر الناس وربما يتمتع بشخصية محببة لذا يصعب التكهّن حول تصرفاته الاجرامية كما حدث في ولاية اوكلاهوما الاميركية.
فهل يأتي القاتل في الحالتين من عائلة مستقرة وهل نشأ بشكل آمن مليء بالحب والرعاية والتوجيه الصحيح؟
رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون حدّد الاسبوع الماضي التطرف انه نضال الاجيال في المجتمعات الغربية. وهذا يشمل الفئات المسلمة كما يشمل جماعات اليمين المتطرف. وتعهد كامرون بمحاربة مظاهر التطرف في بلاده، كما تعهد رئيس الوزراء الاسترالي طوني آبوت بمحاربة هذه الظاهرة وعدم السماح بتجنيد الشباب فكرياً قبل تجنيدهم عسكرياً.اما الجانب الآخر من ظاهرة العنف، فتُركت الحرية للاجهزة الامنية لمعالجتها، وربط آبوت التطرّف الاصولي بظاهرة داعش او كما يدعوهم «بجماعة الشر» .
فهل حدّد الزعيمان الاسباب الجوهرية للتطرف ام انهما اهملا اسباباً هامة؟
يدعي كامرون ان الشباب المعاصر يجد نفسه منجذباً الى الايديولوجيات السامة لكثرة ما يشاهدون من افلام تدفعهم للاعتقاد انهم ابطال قادرون على تغيير الواقع. هؤلاء الشبان يضطلعون على بعض النظريات التآمرية واطماع الغرب للتحكم بسياسة واقتصاد العالم. ونتيجة لنشأتهم في عزلة ثقافية في البلد الذي تبنوا هويته دون الانتماء الفعلي اليه.
ورغم صحة هذا التوصيف في بعض الحالات يتساءل المرء اذا كانت هذه العوامل تنطبق على يوسف عبد العزيز الذي قتل خمسة من عناصر البحرية الاميركية؟ فهو على مثال العديد من الشباب الشرق اوسطيين، فقد ولد في الكويت بلد والدته ووالده من الضفة الغربية. نشأ في الولايات المتحدة مشغول البال لما يحدث في المنطقة، وكانت لديه مواقف ناقدة لسياسة الولايات المتحدة حيال القضية الفلسطينية ولدور الولايات المتحدة في حروب الشرق الاوسط (العراق وافغانستان وسوريا ..) وارتفعت درجة التطرف لديه عندما اقام سبعة اشهر في الاردن مع اقارب له.
ومنذ عودته اصبح متمسكاً الاصول الدينية ومتشدداً بممارساته. كما اصبح يتحدث عن اهمية الجهاد والشهادة. وبدأ ينشر افكاره المتطرفة بواسطة شبكات التواصل الالكترونية واعلان الحرب على اعداء الاسلام… وشملت احدى رسائله البريدية الى صديق آخر ابدى اشمئزازه لأنه يعمل في مطعم يبيع لحم الخنزير Bacon للزبائن .
ورغم عدم وجود اي ارتباط له مع تنظيم داعش غير ان مركز المخابرات الاميركية علم انه كان يصف تصرفات داعش. انها سخيفة وتعارض تعاليم الاسلام.
ومن جهة اخرى، لم يكن محمد يعيش في عزلة اجتماعية ثقافية، بل عاشت العائلة في شارع هادئ مع اناس من مختلف الثقافات وتلقى دروسه في مدارس عامة كسائر الطلبة الاميركيين . وكان يهوى الرياضة والصيد والسيارات والسياحة وتسلّق الجبال وحصل على شهادة تخصص في الهندسة. وكان يمارس الرياضة واشترك في نادي للمصارعة. واختبر كل الملذات من نساء ومشروبات روحية ومخدرات ومنها الحبوب والماريجوانا.
وفي مرحلة من حياته عانى مثل اي واحد من عشرة شبان اميركيين من حالة الاكتئاب وارغم على تناول العقاقير المهدئة.
والى جانب حالة الكآبة وتعاطي المخدرات، عاش محمد في اجواء عائلية تساعد على فهم ازماته النفسية.
في سنة 2009 تقدمت والدته «رسمية» بطلب طلاق من والده يوسف سعير عبد العزيز لأنه كان يقوم بضربها بشكل دائم، وغالباً ما يفعل ذلك امام الاطفال. كما قام بالاعتداء الجنسي عليها على مرأى من ابنائها. وادعت الأم انه اعتدى عليها بقساوة شديدة في احد الايام فغادرت المنزل الى ملجأ خاص كما اعلنت الوالد ان زوجها كان قاسية ويعاقب اطفاله بعنف لا يطاق ودون اي سبب مبرر.
رغم كل هذه الاحداث المؤلمة فضلت الزوجة البقاء مع عائلتها ضمن شروط. لكن يبدو ان الوالدين لم يكن لهما اية سلطة على ابنهما محمد بعد ان اصبح شاباً، لا يذهب الى المسجد للصلاة ولديه رفاق قيل انهم يشجعونه على تعاطي المخدرات. وجاءت الرحلة الى الاردن لابعاده عن هذه الاجواء ولعزله عن اصدقاء «الشر».
ورفض محمد طلب والديه لاعادة تأهيله من آفة المخدرات، واصبح يعاني من مرض «الكآبة» وكان يرفض ايضاً تناول المهدئات بشكل منتظم.
وبعد عودته من الاردن ابتاع محمد بندقية واحتفظ بها رغم الحاح والديه وطلبهم اليه التخلص منها، لكنه لم يصغ لطلبهم.وبدأ محمد يعزل نفسه عن عائلته بينما اصبح اصدقاؤه هم اصحاب المشورة ويبوح لهم باسراره الشخصية. ويبدو ان المشاكل داخل العائلة زادته ابتعاداً عنها. واصبح يشارك مع رفاقه في رحلات لاطلاق الرصاص وقيادة السيارات بسرعة وتعاطي المخدرات واقامة الحفلات «سكر وعربدة».
وعندما حاول العودة الى التقوى والسلوك الديني الحسن جاءت هذه الانعطافة متأخرة. وتلقف محمد فكرة واحدة دغدغت مخيلته كتعويض عن تراكمات من الاخطاء والاختبارات المحبطة ورأى بالاستشهاد مخرجاً يعيد له كرامته والصيت الحسن، بدل الانتحار المذل والمهين له ولعائلته.
لهذا تصفه الاجهزة الاستخباراتية «الراديكالي المتطرف» بفعل ارادي شخصي.
بالواقع يبدو محمد عبد العزيز متطرفاً بالصدفة او متطرفاً لاسباب عائلية. شخص اراد الانتحار والتخلص من مشاكله الكثيرة، لكنه اختار طريق الشهادة لمعالجة معضلات لم يتمكن من مواجهتها وتخطيها بالطرق الصحيحة.
ربما يطلب من السلطات الامنية والسياسية ان تدرس تاريخ بعض العائلات التي ينشأ فيها «المقاتلون الاجانب» والارهابيون، قبل ان يتخذوا قراراً بمكافحة التطرف والارهاب. لأن العائلات السعيدة تنشئ مواطنين صالحين.
وان كان من الصعب معرفة العائلات غير الصالحة، ربما يتوجب على الحكومات ومؤسساتها النظر بتروٍ الى الاسباب التي تدفع العائلات الى التفكك والعنف والقلق وعدم الاستقرار ورمي الاطفال في الشوارع ، فمن هذا الواقع ينتج الارهاب؟؟
pierre@eltelegraph.com
العنف بين التطرف والارهاب
Related Posts
وباء كورونا والحرب العالمية الثالثة