ناتالي اقليموس
يُسابق مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان موعد طيّ عامه الأوّل في سُدة دار الإفتاء في 10 آب، ليستكمل «الورشة» التي أطلقها في كلمته الأولى: «أصاب الدار ما أصاب الوطن من انقسام…»، ودعوته إلى «تحسين العلاقات»، و»مكافحة الإرهاب بإسم الدين». وفي موازاة أسفاره المكوكية، سعى دريان إلى جملة تغييرات في المناصب والأسماء، أحدثها تعيين مدير عام جديد للأوقاف ومديرة لإذاعة القرآن الكريم. «لن يكتفي مولانا بهذا الحد من التبديلات»، هذا ما تؤكّده أوساط دار الفتوى لـ»الجمهورية»، مشيرة إلى «أنّ الدار ومؤسّساتها على موعد مع موجة كبيرة من التغييرات».
المفتي دريان طوّر علاقاته وبَنى مواقفه منطلقاً
من قاعدة «حفظ خطّ الرجعة»
«سنة الطوارئ». كلمتان تختصران العام الأوّل الذي قاده المفتي دريان في رئاسة دار الفتوى. عام كاد يُدخل الدار كتاب «غينيس» لتسجيله أكبر عدد من الزوّار والدعوات والأنشطة. منذ عقد قمة إسلامية- مسيحية وفي ما بعد قمّة إسلامية-إسلامية، ثم إجراء انتخابات للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والمجالس الإدارية، وبعدها التعيينات الإدارية المستمرة، والأسئلة تتّسع: ماذا خلف التغييرات؟
منهم من يتهامَس عن رغبة عامّة في مَحو كل ما له صِلة بالمفتي السابق، نظراً إلى ما شهدته الدار من صراعات وقرارات كيدية لم يسلم منها مُفتو المناطق والأئمة. وآخرون يتغامزون عن أهمية عودة سماء الدار زرقاء، نظراً إلى انّ الدار تضمّ أوسع قاعدة سنية دينياً و»المستقبل» أكبر قاعدة سنية حزبية، والتناغم بينهما يمكن أن يحصّل مكاسب للطائفة ويردّ عنها شبح الفتنة.
فيما فئة ثالثة تشير إلى هاجس دريان لخوض معركة الإعتدال في وجه التطرف السنّي، وتكريس أجواء الديموقراطية، خصوصاً بعد نقله الدار إلى برّ الأمان وتكريس مجلس شرعي منتخب لها… بالإضافة إلى انفتاحه على الطوائف والمذاهب واستضافته رجال الدين أكثر من مرة.
في الظاهر، لا يختلف اثنان على الحركة الناشطة التي أضفاها دريان في دار الفتوى ومنطقة عائشة بكار، فمن الناطور المسؤول عن الموقف للعموم الكائن عن يمين الدار، إلى الشرطيين المولجين تنظيم السير والمداخل المؤدية إلى المنطقة، مروراً بالصحافيين المتابعين لملف دار الفتوى وصولاً إلى مُفتي المناطق والمشايخ والأئمة، الرأي عينه: «المفتي ما بيهْدَا»، «الموقف مفَوّل من الصبح»، «مش عم نلَحّق «إيمايلات» وتغطية نشاطات»، «الإجتماعات زخّ المطر».
تحديات العام الجديد
لكن على رغم الإجماع العام، تشير أوساط دار الفتوى ، إلى انّ طريق دريان ليست معبّدة بالأزهار والورود، إنما محفوفة بالتحديات والمطبّات، «أوّلها على مستوى الوضع العام للطائفة السنيّة كجزء ممّا يواجهه الوطن سياسياً وأمنياً واجتماعياً… وما تواجهه المنطقة إقليمياً، على المفتي إنجاز التغييرات بما يتناسب مع الأجواء العامة الداخلية والإقليمية، وأن يستدرك بحكمته وباعه الطويل أيّ نقطة اختلاف محتملة مع بعض الفاعلين الإسلاميين على الساحة».
أمّا التحدي الآخر، فمرتبط بـ»نوعية الاشخاص الجدد الذين سيتولون العمل الديني والإداري، هؤلاء من بيئات مختلفة، سياسياً وثقافياً ومن جماعات دينية متعددة، لكل واحدة أفكارها، وخلفيتها… وهنا تبرز مدى قدرة دريان على خلق التناغم من التنوّع».
في موازاة ذلك، لا تُسقط الأوساط قضية التمويل من ميزان تحديات المرحلة المقبلة، فتقول: «أيّ تطوير أو تنمية يحتاج إلى إمكانات في معظمها غير متوافرة، ما يعني أنّ موجة الاصلاحات يجب أن تترافق مع جهد خاص يُعيد الثقة إلى المتموّلين ليشاركوا في حملة التطوير عبر تبرعاتهم واستثماراتهم، بلا قيد أو شرط مُسبق يقوّض تحركات الدار». ويبقى التحدي في مدى قدرة النخبة الحديثة بأن تؤازر دريان في تحدياته وألّا تكون حملاً إضافياً يُثقل كاهله ويُبطئ حركته.
بعيداً من الكيدية!
تستبعد الأوساط عينها وجود كيدية مبطّنة، أو رغبة في مَحو ما له صِلة بسلف دريان، قائلة: «منذ انتخابه أعلن المفتي تطويراً على الأصعدة كافة، التعليم الديني، الاوقاف، المؤسسات، تشكيل مجالس إدارية جديدة، وبالتالي التغييرات تأتي في إطار قيادي وإداري لا يحمل الكيدية، بقدر ما يحمل تصوّرات تطويرية تواكب المرحلة المقبلة».
وتضيف: «بالنسبة إلى دريان التطوير يبدأ من رأس الهرم ليصِل إلى القاعدة، ما يعني أنّ الايام المقبلة أيضاً ستشهد تبديلات في عدد من المؤسسات والوظائف الصغيرة والكبيرة»، مؤكدة: «الهدف ليس إحراج أسماء وإخراجها بل موجة تغيير وأدوار يتناوَب عليها الفاعلون».
في هذا السياق، يقول نائب «الجماعة الإسلامية» عماد الحوت «من الطبيعي أن تشهد دار الفتوى نوعاً من التغيير، خصوصاً بعدما شهدت الدار نوعاً من الترهّل في الهيكل الإداري والوظيفي، ولا بد من استنهاض بالاعتماد على وجوه جديدة، لتعطي أفكاراً جديدة».
«التيار مِرتَحلو»
أثبتت حركة الزيارات الناشطة إلى دار الفتوى طوال العام، مدى إتقان دريان التعامل مع القوى السياسية، خصوصاً الأقوى في الشارع الاسلامي السنّي، وتحديداً تيار «المستقبل». وغالباً ما يتردد في أروقة دار الفتوى «التيار مِرتَحلو»، في إشارة إلى حسن العلاقة بين «المستقبل» والمفتي، فتُرك للأخير هامش وسيع من التحرك من دون إرسال أيّ رسالة انزعاج.
في هذا السياق، ينفي النائب جمال الجراح «سَعي تيار «المستقبل» للإمساك بالدار»، قائلاً: «يكنّ التيار كل الاحترام والمودة لسماحته، ونطبّق قول ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أي أننا لا نتدخّل في قراراته الدينية، فهو الأعلَم والاجدر والأحرص على المؤسسة الدينية، ويريحنا أنه في صفّ الإعتدال، ويعمل ضمن منطق الشراكة الوطنية. لذا، نلتقي مع دريان كما نلتقي مع غيره من القيادات الروحية الحريصة على أمن البلد واستقراره».
في وقت يشكّل تيار «المستقبل» القاعدة الحزبية السنية الأوسع، ودار الفتوى المرجعية الدينية، يُدرك الطرفان جيداً، لا بل أكثر تيار «المستقبل»، أهمية التعاون بينهما، نظراً إلى مدى تأثير الكلمة الدينية في نفوس المؤمنين، والتي قد تتجاوز بأشواط قدرة أيّ مناشدة سياسية حزبية.
لذا، من المستبعد احتمال أيّ استياء «مستقبلي» من انفتاح دريان على الاطراف الأخرى بما فيها «حزب الله». «هذا لا يعني أنّ المفتي قد لا يخالف «حزب الله» في بعض المواقف»، على حد تعبير أوساط الدار، مُستدركة: «لكن أيّ اختلاف لن يصِل إلى حد القطيعة أو العداء، أو البتّ النهائي في مواقف سياسية قد تشنّج الأجواء، فالمفتي لن يذهب إلى آخر الطريق تحت أيّ اعتبار».
قاعدة ذهبية
شخّص دريان حال الدار والوطن، بقوله «أصاب الدار ما أصاب الوطن من انقسام»، وعلى هذا الأساس كرّر في مجالسه، «ما تِكسرا مع حدا». لذا، طوّر علاقاته وبَنى مواقفه منطلقاً من قاعدته «الذهبية» حفظ خطّ الرجعة مع القريبين بما يحفظ له مساحة واسعة من التحرّك لو مهما ارتفع التناغم، ومع البعيدين على أساس أنّ «الاختلاف لا يُفسد للودّ قضية».
في بقائه بعيداً من زواريب العمل السياسي الضيّق، حَمت هذه القاعدة الذهبية دريان من أيّ «دعسة ناقصة». ولكن، مع دخوله العام الثاني في دار الإفتاء، يرتسم أمام دريان التحدي الأكبر: إلى أيّ مدى الإبقاء على القاعدة عينها، في ظروف متقلّبة وتحديات متزاحمة، سيكون مجدياً؟